بعض الصباحات تشبه كاس الليموناضة، مزيج من حلو ومن حمض يذوبان في ماء الحياة.
ربما كان الماء السكري الذ طعما، لكن الليموناضة هي الحياة.
الملاحظة تعيدني الى انني ابنة مدينة مشهورة بهذا الشراب، الشارع الرئيسي الذي يخترق المدينة مزروع، من على جانبي الرصيف، بنوع خاص من خلاطات السائل الليموني، يتقلب فيها افقيا كشلال متدفق محبوس في علبة، يفور كما كانت احلام شبابنا التي رافقت ذهابنا وايابنا اليومي على تلك الارصفة.
كانت الليموناضة تحضر منذ المساء في الغرف الخلفية للمقاهي، وتحمل عصارتها الى الخلاطات الزاهية، فيتوهم المارة ان هذا التدفق المثير لشهيتهم انما هو عملية الخلط التي تحضر الشراب. الم تكن تلك حال اللعبة الدائرة بين احلامنا والواقع؟؟؟
قبل ايام كنت اشارك في برنامج اذاعي في راديو فرانس، رجل مشارك قال لي انه يعرف لبنان جيدا ،عمل فيه سفيرا، سألني عن مدينتي، وعندما قلت: البترون، اردف بسرعة: اه الليموناضة!
المدينة العريقة، عمرها الالفي، قلعتها الشهيرة، ميناؤها البديع، ناسها ،رجالها المعروفون… امحّوا الا الليموناضة!
اهو الانسان واولوية المعدة؟ اهي متع الحياة التي تتصدرها ابسطها؟ ام هو ذاك الاستشراق المرتبط بسطح الاشياء وقشدتها؟ ام هو الغرب الذي لا يرى عندنا الا ما يمكن ان يبلعه؟
الغرب الاوروبي، وخاصة هنا في فرنسا، منشغل هذه الايام بالنعم واللا.. بصيغة اوروبا الموحدة. تجاوزوا فكرة الوحدة الى توصيف شكلها ومضمونها: ليبرالية ام اشتراكية؟ متجاوزة لسيادة الاجزاء لصالح سيادة الوحدة ام محافظة على هذه الاولى في داخل الثانية؟ حليفة ند كامل لاميركا، ام تابعة لها؟ (خصم؟ – لا، علينا الا نغرق في احلامنا المهزومة. فأوروبا قد تكون منافسا لواشنطن لكنها لن تكون لها خصما، وفرصتنا، التي لا نمسك بأي طرف منها الان،هي اللعب على التنافس وليس انتظار الفرج من الخصومة الموهومة).
في غمرة المعركة الاوروبية هذه يعيد كل طرف الكرة الى الاباء المؤسسين، يستند اليهم ليدعم لاءه او نعمه، فينخرطون بشدة في العملية الديمقراطية الدائرة.
هذا الصباح كنت اقرأ ما كتبه احدهم، في هذا السياق، عن جان مونييه: بعد الحرب العالمية الثانية، رأى الرجل الرؤيوي ان اوروبا في دولها المختلفة قد ملت من الحروب، تعبت من الاقتتال فيما بينها، ورأت ايضا ان القادة السياسيين عاجزون عن تحقيق الوحدة، فلجأت الى المصالح الاقتصادية للناس، السوق الموحد، العملة الموحدة، التبادل الحر بين دول القارة العجوز.. لينجز المزارعون والعمال والكوادر ما لم ينجزه السياسيون. وها هم يتقدمون باتجاه السياسي ليصبحوا، في عالم الكتل الكبيرة، وحدة لا يستطيع احد تجاوزها..
هنا يختفي السكر من الليموناضة، اذ تبرز المقارنة مع وضعنا العربي، تحل محله المرارة التي، مقترنة بالحامض، تجعل للصباح طعما لا يحتمل، لا ينفع في تلطيفه هاتف صافٍ كالماء، وحلو كمثله اذ اذيب فيه سكر.