صراخنا الاخرس!

صحيفة الدستور، 05-01-2005

كما تغوص في قاع نفسك اذ تقوم بعملية تحليل نفسي، هكذا تغوص اذ تعمل على نقل مكتبتك او اعادة ترتيبها.

من منزل الى اخر، تبدو عملية توضيب ونقل الاثاث عملية تافهة، متبعة ومرهقة. باستثناء غرفة واحدة، تحمل على رفوف جدرانها وفي ادراجها، كل الانت.. انت في علاقتك الخاصة والحميمة بالعالم. تكتشف انك كائن بالاف التفاصيل.. تعي تفاصيلك التي لا تنتبه اليها في ضجيج حياة يعدو من فوق الجزيئات الصغيرة التي تشكل جوانية خصوصيتك.

كم من الكتب، من الملفات، من الرسائل، من الحقائب، التي تحمل كل منها في طياتها ذكرى، لها سريرها الخاص في ثنايا الروح. سرير منه ما كان مهد ولادة، ومنه ما كان مهجع نوم، منها ما كان سرير حب، ومنها ما كان فراش مرض، ومنها ما كان فراش موت.

منها ما يمتد في العام، ومنها ما يغوص في الخاص. نصف مكتبتي عراقي، من الاصدارات، الى الدوريات الى ملفات الندوات والمهرجانات.

ابداعات في الشعر، في القصة، في الرواية، في المسرح، في التشكيل.. نقد وابحاث، دوريات الشؤون الثقافية من آفاق عربية الى الاقلام، فسومر المتخصصة في ابحاث الآثار والتاريخ.. ملفات المربد ومهرجان المسرح وندوات اتحاد الكتاب.. اصدارات وملفات بيت الحكمة.. اي قلب ذاك الذي يتحمل صورة دماره كما رأيناها على شاشة الجزيرة! عشرات الاعمال العالمية التي اوصلها الينا مشروع دار المأمون لترجمة مليون كتاب عالمي.. مجموعة من كتب الاطفال، نتاج دائرة ثقافة الطفل، اجمعها لاهديها لاحدى الصديقات التي ما يزال لديها صغار.

عشرات الاسماء ممن تواروا قبل الزلزال، وعشرات ممن لا نعرف الكثير عنهم اليوم..

اي مشروع نهضوي كبير ذاك الذي رمى به هولاكو الى نهر النار!.

اوراقي: هذه الشهادة، افتتحت بها مع جبرا ابراهيم جبرا، مناصفة، المؤتمر الاول لاتحاد الكتاب بعد الحرب الاولى.

هذه الرسالة، من ضفة اخرى، رد بها علي الياس الديري، عام 1983 على ما كتبته حول روايته »الفارس القتيل يترجل«، الرواية التي قدمت رؤية خاصة للحرب اللبنانية.

الرسالة تذكرني باحمد المصلح، اكثر مما تذكر بالياس الديري، يومها تلقيتها على بريد جريدة الرأي، وسألني ابو نضال: هل تحفظين رسائلك المهمة؟ قلت: لا، فاردف: تعودي حفظها، لن تعرفي قيمتها الا بعد سنين، خاصة بعد وفاة اصحابها.. احمد سبقنا ومن يدري من منا، الياس وانا سيسبق الاخر.

وجوه اخرى، لا ادري لماذا تعجلت الذهاب، اثنان من الاقرب الى الروح، تطلان باسمتين من رف التشكيل: علياء عموره ورجاء ابو غزالة. اية صديقتين رائعتين! استثنائيتين! اي وجهين مستعصيان على الموت! معهما ايضا، فخر النساء زيد، ذكرى جميلة، امرأة مذهلة قربتني منها ومن تجربتها وانا بعد ادرج.. لكن ذكراها لا تحمل حرقة انكسار الغصن الاخضر كما علياء ورجاء.. كان العمر كريما معها كما لم تكن الحياة!.

مجموعة من غارودي، هذا العملاق الذي كان لاقترابي منه، لدخولي عالمه، رحابة الكشف، سحر السفر في المحيط. بدأت معه مفكرا وسياسيا، لاجدني بين امواج رجل بحر، ذي خمسة وثمانين كتابا، في الفكر والسياسة في الدين والفلسفة، في الرواية والمسرح والتشكيل والشعر والموسيقى والرقص. في النقد والبحث.. اراه امامي على كرسي المرض في الطابق العلوي المشرق من منزله في فالي سور مارن، وحوله مجموعة من مترجميه الى اكثر من لغة، ومن تلاميذه ومريديه.. الكل جاء ينهل من علمه.. وهو ينتقل من الحوارات الجادة الى رواية النصابين الذين احتالوا عليه وجمعوا المال باسمه، أهو دائما قدر المفكرين والمبدعين ان يكونوا ساذجين في امور المال والتجارة؟

المال.. جعل الورثة يعلنون موته عندما اصابه المرض قبل سنوات، فاعددنا له صفحة تأبين ونعي في الدستور، ولولا حدس جعلنا نعمل على التأكد في اللحظة الاخيرة، لنشرناها في الغد، وبالتزامن مع صحيفة الخليج. ربما كان من الافضل له ان يقرأ الكلام الجميل الذي كتب عنه.. والذي لا يقرأه عادة الا المعزون، اي ظلم للاحياء، واي هباء للموتى!! الصفحة ما تزال في ادراجي، جاهزة، ليوم قدر، ابدو ساذجة اذا لم يردني انني ربما سبقت غارودي اليه.

مع غارودي، كم من الاسماء تحتل رفوفي المخصصة للفكر، للنقد، وللدين، اي جهد، واي عجز تعيشه هذه الانسانية في بحثها الازلي عن قراءة وجودها واكتشاف العلاقات السببية في شبكة التشكل الفردي والاجتماعي، الطبيعي والوضعي!

جناح الندوات والحلقات الدراسية والمؤتمرات. يا الهي! كم من الكلام اهرقناه خلال العشرين سنة الماضية، فيما كان الاخرون يخططون بصمت اما لاخراسنا واما لجعلنا ننطق كالببغاوات او كالمهلوسين. لم احتفظ الا بملفات تلك الفعاليات التي شاركت فيها، ورغم ذلك فهي تفوق المئة.

اتوقف امام رف ترجماتي: اثنان وعشرون كتابا، امسك بغلاف اخرها: »صرخة الفارغوي« لدومينيك دو فيللوبان صورة تمثال ذلك الحيوان الاسطوري تعلو سور نوتردام وتشرف على باريس. اختاره الوزير المفكر الشاعر لانه يفغر فاه باقصى ما يستطيع، مطلقا صرخة يفترض ان تكون مدوية، لكنها في الواقع خرساء كليا.. ترانا كلنا، بشكل او بآخر، هذا الحيوان الاسطوري، رغم كل الكلام؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون