في زمن المأسي ندرك ان جوهر مآسينا انما يكمن في اننا تعودنا عدم احترام الحقوق. حقوقنا وحقوق الغير. واذا كانت ثمة مقاييس لقياس المستوى الحضاري للامم فانما تتقدم تلك المعايير قضية احترام الحقوق وارقاها حقوق الملكيات الفكرية. فعندما كنا ندرج في قائمة الامم المتحضرة التي تقود الحضارة الانسانية، كانت قوانين العصر العباسي تفرض الاعراف والقوانين الاشد صرامة فيما يتعلق باحترام ملكية الغير لفكرته او حتى لعبارته، بحيث تفرض على المخطوط تغيير نوع الخط ونوع القلم ولون الحبر اذا ما اورد تنصيصا من كاتب اخر.
وعندما سقطنا في درك الانحطاط الحضاري اصبحت سرقة الافكار والنصوص بل وحتى الرسائل الجامعية موضة مألوفة. الى ان جاءتنا اخيرا المصالح الغربية لتفرض علينا تبني حقوق الملكية الفكرية، فكان ذلك من باب المثل القائل » ما من شر الا ومنه خير«.
وعندما كان الاردن من اول الدول العربية التي تبنت ذلك استبشرنا خيرا، لاننا كنا، وبصراحة من اكثر الساحات التي يستباح بها هذا الحق.
غير المسألة على ما يبدو، هي تلك القضية الابدية المطروحة بين اشتراع القوانين المحافظة على الحق وبين اساءة استعمالها من قبل الناس، بل واحيانا كثيرة، الافادة منها لمزيد من النصب والسرقة. لان المسألة اولا واخيرا مسألة اخلاقية وحضارية تتعلق بالافراد، ولحسن الحظ ان ثمة محاكم قادرة على الحسم فيها.
لقد كتبت في هذه القضية مرارا ومنذ سنوات، وربما كان السبب الذي يجعلها في اول اهتماماتي انني اجمع في حياتي العملية صفة الحقوقي والمبدع، وانني كنت ارى ما يحصل على الساحة من تعديات. غير انني اعود اليها هذه المرة لقضية عايشتها يوما فيوما منذ خمس سنوات، واعرف اي تعد على الحق تمثل، واي ظلم تمثله لصاحبتها.
حقوقية، اعرف ان شهادة القريب لدرجة محددة غير مقبولة، لكنني اعرف ايضا ان سير التحقيق، في الكثير من القضايا، انما يعتمد بشكل اساسي على الذين عايشوا الحدث.
فقد رأيت ابنتي وفي بيتي تعمل منذ اربع سنوات على نص مسرحي اعتبرته نصها الحميم هي التي تحمل ماجيستير المسرح والتلفزيون من جامعة غولد سميث في لندن. كانت تعد وتقدم برنامجها التلفزيوني مئة كتاب في القرن العشرين، وتعمل على افلام وثائقية لمؤسسات دولية، تعرض في لندن وفي فيينا، وتحقق اعلى النجاح لكنها تعتبر هذا النص عملها بامتياز.
رأيتها منذ سنتين تتعامل مع مخرج لاعداد التصور الاخراجي للعمل، وعندما سألتها لماذا لا تخرجه هي، اجابتني بانها صممت شخصية ما لتلعبها هي ولا يمكن ان تكون الكاتبة والمخرجة والممثلة في ان. تأخر التنفيذ لعدم توفر التمويل واخيرا ابلغتني انها ومخرجها تمكنا من اقناع الفوانيس بتمويل العمل. وعندما نشأ سوء تفاهم ما بينها وبين المخرج نصحتها بحلحلة الوضع او بفك الارتباط. لافاجأ بان هذا الاخير، وقد طلب منها النص لعرضه على ممثلة، ذهب وسجله باسمه في المطبوعات والنشر.
مدير المهرجان عرض عليها مصالحة تعيد النص الى اسمها وتبقي المخرج مخرجا وهي ارتأت، ان التسامح مع سارق سرقة، وان التخلي عن الحق خيانة، وان التواطؤ مع الفساد جريمة. وقررت الاحتكام للقضاء، ثقة به، وايمانا بان الالتزام بالحقوق واجب سواء كان هذا الحق حقنا او حق الاخرين.
الموئل الاخر الذي من الطبيعي ان يلجأ اليه المرء في هذه الحالة، هو الصحافة. وفي صحفنا ما يسمى بالاقسام الثقافية، ومعظمهم من الزملاء الذين يمارسون مهنة الكتابة، ويعرفون ان معنى ان يسرق منك احد نصك، هو ان يسرق منك روحك وفكرك، ابنك.
غير ان المفاجأة الكبرى هي ان المعنية، وقد لجأت الى هذه الاقسام، طالبة اثارة القضية بموضوعية كاملة تتمثل في تقصي الموضوع ونشر وجهة نظر جميع الاطراف المعنية بمن فيهم المتهم، قد جوبهت بلوبي (والتعبير مضحك مؤلم) يقفل في وجهها جميع الابواب لارتباط البعض بجهات ينتمي اليها المتهم، او لخوف البعض الاخر من اثارة قضية خلافية. بل ان الصدمة هي ان من تصدر حملة الضغوط لمنع النشر هو زميل يحتل منصبا رئيسيا في احدى صحفنا، ويفترض فيه ان يكون اول من يفهم اهمية ذلك لاكثر من سبب : اولها انه رجل ناضل في حياته لاجل الحقوق، وثانيها لانه هو نفسه قد جرب الكتابة المسرحية، وثالثها لانه صحافي متمرس، عمل في الغرب وفي اكثر الدول التزاما بالحقوق الثقافية.
بعيدا عن الدخول في التفاصيل، اسأل ببساطة : ماذا لو كانت هذه القضية قد حصلت في مصر ؟ ولا اريد المقارنة بالمجتمعات الغربية.
وبشكل مبدئي اكثر اسأل : ما معنى التحقيق الصحفي ؟ وما هو دور الصحافة عندما تطرح في المجتمع قضية من هذا النوع ؟ وهل اصبحت الطبطبة على كل شيء هي القانون الاعلى في ادائنا الاعلامي ؟ هل اصبح دور الصفحات الثقافية مقتصرا على »التغطية« – كما هو التعبير الشائع – وحد الله بينها وبين »الكشف« لان هذا الاخير يعني البحث عن الحقيقة واثارة المتاعب، ومهنتنا لم تعد مهنة المتاعب، بل مهنة المكاسب .. والمكاسب الصغيرة .. التي قد يكون ابسطها مكسب البعد عن وجع الراس. .. ولتذهب السلطة الرابعة الى صف المتسول الرابع عشر.