قبل اربع سنوات كنت في زيارة باريس وتلقيت من احدى صديقاتي هدية ثمينة هي عبارة عن كتاب لكاتبة لم اكن اعرف اسمها قبل ذلك : دانيال سالوناف.
المرأة استاذة جامعية، وكاتبة في صحيفة لوموند الفرنسية، اما كتابها فهو عبارة عن شهادة حية وصادقة اثر زيارة قامت بها الى فلسطين. مثلها مثل معظم النشطاء اليساريين جاءت سالوناف الى اسرائيل وفي ذهنها صورة الدولة الديمقراطية التي يتحدث عنها الاعلام الغربي، وفي ذهنها ايضا صورة مغلوطة عن فلسطين، صورة يتعاون على رسمها الدوائر الصهيونية والغربية وتقصيرنا نحن.
ادهشتني الموضوعية التي روت بها سالوناف تبدل رؤيتها مند اللحظة الاولى التي جلست فيها في الطائرة الى جانب امرأتين فلسطينيتين، حتى لقائها بفدوى طوقان، مرورا بكل تجربة الواقع المعاش في اسرائيل والارض المحتلة كلها.
ويومه كتبت في هده الزاوية بالذات مقالا بعنوان : دانيال سالوناف.
هل كنت ادري يومها انني سأكتب بعد اربع سنوات في نفس المكان، وتحت نفس العنوان عن ادانة محكمة فرنسية لهده الكاتبة بتهمة اللاسامية ؟
ادانة لم تطلها وحدها بل شملت في الحكم ذاته عالم الاجتماع المشهور ادغار موران، والنائب السابق في البرلمان الاوروبي نائير. القضية رفعتها الجمعيات اليهودية بناء على بيان مشترك كتبه الثلاثة في صحيفة لوموند، والحكم صدر بناء على فقرتين تقول الاولى منها، ببساطة، انه لا يجوز ان يتحول شعب تحمل صنوف الاضطهاد الى اكبر مضطهد للاخرين. ان يتحول مجموعة هاربين من الاضطهاد، باستثناء مجموعة قليلة تستحق الاعجاب، خلال جيلين فقط، الى امة متعالية تجد الرضا في اذلال الاخرين.
كما تقول الفقرة الثانية، ان يهود اسرائيل المتحدرين من الدين اضطهدوا في دائرة ما عرف بالغيتو، يجبرون الفلسطينيين الان على ان يعيشوا في غيتوهات، واليهود الذين كانوا ضحية نظام ظالم لا يرحم يفرضون على الفلسطينيين نظاما ظالما لا يرحم. اليهود الدين كانوا ضحايا اللاانسانية يمارسون الان لا انسانية رهيبة الخ…. ويجعلون الفلسطينيين كبش فداء بمن فيهم الرئيس عرفات الذي يطالبونه بوقف عمليات يمنعونه هم من وقفها.
الموقعون الثلاثة ادانتهم محكمة فرساي باللاسامية.
الخطورة في هذه القضية ان الحكم لم يستند الى أي كلام موجه ضد اليهود بشكل عام، وانما فقط الى مواطني دولة اسرائيل.مما يجعله يقع ضمن دائرة انتقاد سياسة دولة، وذاك ما لا يقع تحت طائلة القانون.
واذ نقول الخطورة فذاك لان ثمة قضية تطرح مند فترة على الساحات القانونية والاعلامية، بل وحتى الاكاديمية، وهي الخلط بين انتقاد اسرائيل وانتقاد اليهود، مما يجعل انتقاد اسرائيل امرا ممنوعا باسم اللاسامية. وتلك سابقة قانونية لم تعرفها المحاكم من قبل.
فمنذ الثمانينات بدأت حملة المؤسسات الصهيونية لتكريس هدا المفهوم عبر المحاكم، وكانت القضية الاولى تلك التي رفعها الكريف ضد روجيه غارودي والاب لولون حول بيانهما ضد اجتياح لبنان. وخسر الادعاء. الخسارة تكررت مرارا دون ان يثني ذلك الجمعيات المعنية عن رفع القضايا. قضية واحدة ربحت في العام الماضي وكانت ضد رئيس بلدية في منطقة ليل، قرر مقاطعة المرطبات الاسرائيلية. غير ان الحكم صدر على قاعدة اعاقة التجارة، ولم ينجح الادعاء في ادانته باللاسامية. من هنا تأتي الادانة الحالية لثلاثة اشخاص هم من الاعلام في فرنسا بمثابة نقطة اولى خطيرة تسجل في اللعبة المرة لتثبيت التماهي بين انتقاد اسرائيل وتهمة اللاسامية.
ولعل الغريب ان اول وافضل ردة فعل على ذلك جاءت من جانب يهودي فرنسي… والى الغد.