ثلاثون، وهاتف ياتيني من اذاعة فرنسا الدولية، يطلب شهادة كاتب عاش الحرب اللبنانية وعانى منها. فماذا اقول له ؟ هل اعيد فتح الجرح العميق الذي لم يندمل يوما طوال ثلاثين عاما ؟ هل اخرج من صناديق الذاكرة كل لحظات العذاب التي لم تعطني استراحة محارب منذ باص عين الرمانة ؟ ام اعطيه تحليلا سياسيا باردا لما حدث قبل ثلاثين عاما ويكاد يتكرر خلال الايام القادمة ؟
المذيع يصر على البدء بالشخصي، والفاصل بين الشخصي والعام في هذ الموضوع خط وهمي كذلك الذي كنا ندرسه في كتب الجغرافيا في لبنان ونحن صغار، عندما حفظنا غيبا : ” يحد لبنان من الشرق خط وهمي يفصله عن سوريا ” لكن هذا الوهم الذي رسمه اجداد هذا المذيع الفرنسي تحول الى خط نفسي واقعي، الى اخدود عميق حفرته الطائفية الدينية والاقطاعية السياسية ليس بين لبنان وسوريا فحسب وانما بين اللبنانيين واللبنانيين ايضا.
من هنا تبدا حكاية الشخصي، من انحياز الفتاة المارونية الى الصف القومي، فيما يعتبر خيانة للانعزالية اللبنانية التي تفتخر بالبونجور والمرسي وتخجل من صباح الخير وشكرا. بل فيما يعتبر الخيار الاساسي بين ” امّنا فرنسا ” وامنا سوريا الكبرى او العروبة “، خيار ينجم عنه منطقيا خيار اخر، جذري في قضية الصراع العربي الاسرائيلي، بين الانحياز الى المقاومة او الانحياز الى اسرائيل مباشرة او عبر طرق ملتوية.
وتنطلق حكاية الشخصي قطارا ذا صفير جنائزي يتوقف لحظة عند اغتيال معروف سعد لاطلاق شرارة النار المهياة، ولحظة اخرى عند الساعات الطويلة التي كنا نستمر فيها امام التلفزيون لنرى ما اذا كان رشيد كرامي سينجح في تشكيل حكومة تنقذ البلد، او في النجاح في عدم انزال الجيش الى ساحات المواجهة كي لا ينقسم ويكون في ذلك القضاء على اخر رموز الوحدة الوطنية والسيادة،في مواجهة خطاب كرامي الحريص الذي اودى بصاحبه الى ان يتطاير شظايا مع قنبلة وضعها له من ارادوا تشظي لبنان، دون ان يكون له حظ كربلائية رفيق الحريري، كان خطاب اخر يطل علينا به كل ليلة بيير الجميل في انه حريص على المقاومة الفلسطينية ومع القضية العادلة ولكن ليس على حساب لبنان، تماما كما يقول ابنه اليوم عن المقاومة اللبنانية. يتوقف القطار عند اندلاع المواجهات حول سكن يقع مصادفة بين مخيمي جسر الباشا وتل الزعتر، عند سقوط البيت مع سقوط المخيم الاخير، وبداية رحلة التشرد التي تبدو وكانها خرجت كالافعى من رحم ذلك السقوط.. لكانه قدر ارتبط ازليا باسم المخيم. عند الدماء والجثث، عند المقتولين على الحواجز الثابتة والطيارة، عند المخطوفين الذين لم يعودوا او اعيدوا لاهلهم قطعا مجموعة في اكياس من خيش توضع ليلا عند باب البيت، عند الشهداء الذين قضوا لحماية مشروع ولمنع مشروع تدميري يعود الان مدججا بالدبابات الامريكية.
أتوقف لأسال ما الذي تغير في المشهد الحالي، اللهم الا القليل من الاسماء ( حيث لم يتغير اكثرها بفعل الوراثة ) ؟،اللهم الا وعي كمال جنبلاط الذي لم يورث منه شيئا لابنه، وتحول كريم بقرادوني وجزء من الكتائب الى موقف مخالف ؟
يسألني المذيع تعليقا على الوحدة الوطنية التي تجلت في مظاهرة المعارضة، واساله بدوري : وماذا عن الوحدة الوطنية التي تجلت في المظاهرة المليونية التي خرجت تدافع عن المقاومة، أوليست هذه هي المعارضة الحقيقية لانها تعارض المخطط الذي رسمته واشنطن وتل ابيب للبنان ؟
يسألني عما اذا كنت اعتقد ان اللبنانيين يريدون العودة الى الحرب، فاساله : ومن قال ان اللبنانيين ارادوا الحرب عام 1975، هل فكر احد يوما في ان يقيس نسبة عدد المنخرطين في الميليشيات الى نسبة عدد السكان، بل الى نسبة القادرين على حمل السلاح من السكان ؟
مفارقة غريبة تقودني اليها المقارنة : لماذا صيدا؟ واي قدر من معروف سعد الى رفيق الحريري ؟ حتى ولو كان وجه الشبه بينهما انهما لا ينتميان الى البيوت الاقطاعية الموروثة من العهد العثماني في حين ان وجه الاختلاف ان كلا منهما قد اختار لنفسه طريقة خاثة للصعود الى قمة القيادة السياسية : واحد على اكتاف عمل صيدا، صياديها وفقرائها، وواحد على اكتاف استثماراته.