الرجل يسقط من الطابق العلوي، وعلى امتداد المسافة التي ظلت تفصله عن الارتطام بالارض، كان يقول: لا بأس الأمور على ما يرام، الى أن ارتطم بالارض وتكسرت عظامه. تلك هي اللقطة المعبرة من الفيلم المشهور الذي حمل اسم الكراهية.
فهل اكثر منها انطباقا على ما يحصل الان في فرنسا؟ فالمصادر التي تصلح لتغذية الكراهية بين الجاليات العربية والمواطنين الأصليين قائمة تاريخيا، منذ الفتوحات الاسلامية والحروب الصليبية، الى الاستعمار ومرحلة البوست كولونيالية، الى طرح صدام الحضارات وفبركة الارهاب ومكافحة الارهاب. واذا ما اقتصرنا على المرحلتين الاخيرتين، لأن المجال لا يتسع للتاريخ، فان تدفق الهجرات مع مرحلة البوست كولونيالية، يترافق مع ارساء واقعين مريرين: واقع اجتماعي مترد في مناطق غيتوهات المهاجرين، وواقع تربع أنظمة القمع والفساد على رأس الكيانات العربية التي انشأتها مشارط التجزئة الاستعمارية. تربع لم يكن له ان يستقر لولا دعم الدول الغربية، باستعماريها القديم والجديد. مما أعاق أية عملية تحديث، وتنمية، ومنع اي انفتاح على الحريات الاساسية للمواطن. لتصبح اوطاننا أكثر فأكثر أوطانا طاردة، وليصبح اختناق حلم التغيير، مصدرا لتنامي حلم الهجرة، كما تصبح الصورة الكاذبة التي تقدمها الثقافة والاعلام لوردية المجتمعات الغربية مصدرا جاذبا لاحلام الذين يحلمون بالرخاء والاعتياش.
غير ان الواقع لم يشبه يوما الحلم، فلا الصورة الوردية حقيقية، حيث ان المجتمعات الجاذبة قد وقعت في خطأين اساسيين: فلا هي انتهجت السياسات الكافية لاستيعاب مهاجريها، وتقنين تدفقهم بقدر قدرتها على ذلك. ولا هي تراجعت عن سياساتها الاستعمارية المقنعة المتحالفة مع الانظمة العربية الفاسدة القامعة، ضد الشعوب وضد اي حلم لها بالتغيير نحو الافضل. سواء على الصعيد السياسي او على صعيد الحريات. اضافة الى ذلك أصرت الحكومات المعنية على سياسة خارجية تتنكر للقضايا المصيرية التي تحدد وجدان الانسان العربي، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والقضية العراقية وما بينهما من قضايا عربية واسلامية تتراوح في مصيريتها.
فهل من الغريب بعدئذ ان تتضخم مشاعر الكبت والحقد؟ متجاهل من يقول ان أوضاع الضواحي الفرنسية لا تشكل برميلا من الغاز المضغوط القابل للاشتعال، ولكنه جاهل ايضا من يقول ان توقيت هذا الاشتعال قد جاء صدفة. لان أبسط مراجعة لتطورات الحقن والشحن منذ ثلاث سنوات على الاقل، وتحديدا منذ مجيء نيقولا ساركوزي الى وزارة الداخلية، تقدم الاجابات. فمنذ بدا نجم الوزير يصعد نحو معركة الرئاسة القادمة كانت هناك ثلاثة امور واضحة ومعلنة: الاول ان الرجل يخوض معركته بالدرجة الاولى ضد جاك شيراك ودومينيك دو فيللوبان، اللذين يمثلان خط الاستقلالية الفرنسية الاوروبية، وهو ما ترجم بالموقف المعارض للحرب على العراق. والثاني أنه مدعوم من اللوبيهات اليهودية ومن انصار الامركة، حيث أطلق حملته رسميا من زيارتين للولايات المتحدة، الاولى بدات بالايباك، وتخللتهما مشاركته وخطابه في مؤتمر هرتزليا، والثالث انه يسلك لتحقيق ذلك خط التصعيد بين مسلمي وعرب فرنسا والحكومة.
الواعون المتابعون نبهوا طويلا الى مخاطر هذا الخط، وانعكاساته السلبية على العرب، سواء في فرنسا أو في العالم العربي. والجهلة وأنصار التهويش والغوغاء ساعدوا على تمرير المخطط. في حين استمر النساجون يعملون بهدوء على حياكة الارضية، وها هي تنشر على العيان.
ليكون الخاسران الكبيران: العرب وفرنسا. وليكون الرابحان الكبيران: اميركا واسرائيل.
العرب شعوبا وقضايا: في مهاجرهم وبلدانهم، وفرنسا كبلد يراد له ان يساق الى بيت الطاعة الاميركي- الصهيوني، ومن ورائه اوروبا كلها. أوروبا التي قالت في استطلاعها المشهور قبل سنتين ان اسرائيل خطر على السلام العالمي، وها هي الاحداث تفعّل لتقول لها، رغما عن الجميع، أن العرب والمسلمين هم الارهابيون وهم المتوحشون ، وهم الخطر على السلام العالمي والاهلي . ولكن ، هل حل القدر ؟ الم يعد هناك مخرج ؟ هو مخرج موجود . موجود في ذهن العقلاء من الجاليات العربية ، وموجود في جعبة من يملكون برامج الاصلاح والعدالة الاجتماعيين من الفرنسيين . وموجود في جعبة الاعلام الذي لم نجد في خطابه هذه الايام الا الدليل الابلغ على اضطلاعه الكلي بخدمة المخطط الاميركي الصهيوني ، بدءا من المصطلح وعبورا الى الصياغة ومنهما الى الصورة ،وانتهاء بالمسكوت عنه . وهذا ما سأتناوله غدا