الانتقام من قبر ناصر

الربيع العربي، 08-02-2013

عندما وضع دريدا مخطط مساق الفلسفة الاوروبية الذي سيدرسه في الجامعات الاميركية، افرد مساحة كبيرة لماركس، وعندما ساله صحافي اميركي يدعي انه محرر ثقافي عن كيفية توفيقه بين ذلك وبين فلسفته المعادية للماركسية، رد ابو التفكيكية بان ماركس هو هرم كبير في تاريخ الفلسفة الاوروبية ولا يمكن اغفاله او اغفال تدريسه في اوروبا وخارجها. انه تاريخ اوروبا الذي لا يجوز لاحد تحويره او التعتيم على اي جزء منه بحجة الخلاف في الراي. كان ذلك في بداية التسعينات، اي بعد تفكك المعسكر الشيوعي في العالم فيما اعتبر انتصارا سياسيا لليبرالية وفكريا للفلاسفة المعادين للماركسية.

تذكرت هذا وانا اسمع خبر تعاطي السلطات المصرية الجديدة مع قبر عبد الناصر. فاضافة الى حرمة الموت وحرمة القبور، التي يفترض بان يكون من يدعي الاسلام وقيمه اول من يحترمها، واضافة الى ان القلة المتبقية من عناصر القوة التي يستند اليها حكم الاخوان في مصر اليوم هو من ارث ما انجزه هذا القائد الكبير، – اضافة الى كل ذلك، هناك تاريخ مصر، بل وتاريخ العالم العربي كله. فكيف يريد هؤلاء المنتصرون في الوصول الى قصر الاتحادية التعتيم على اهم حقبة في تاريخ مصر الحديث والتعدي على قبر زعيم تلك المرحلة ؟ علما بان الخلاف بين ناصر والاخوان لم يكن في ظاهره الايديولوجي في مستوى الخلاف بين دريدا وماركس، بدليل ان ثورة يوليو دعت الاخوان للمشاركة في حكومة ما بعد الملكية، ووقع الخلاف على نقطة واحدة هي اشتراط الاخوان عرض كل قانون جديد على مكتب الارشاد لاقراره او رفضه.

غير ان هذه الواقعة تقود الى عمق الخلاف الايديولوجي، خلاف لا يتناول الاسلام بحد ذاته، حيث كان ناصر يعتمد على الاسلام كمرجعية قومية وثقافية ودينية، في خطابه وفي عمله، لكنه يتناول قراءة كل فريق للاسلام. فالاخوان يريدونه اسلامهم هم، واسلام قراءتهم وحدهم، واسلام سلطتهم المتمثلة في المرشد يفرضونها على كل الاخرين، والا فالعداء الذي يصل حد الاغتيال، الاغتيال الذي لم ينجح ضد الشخص فها هم بعد عقود ينفذونه ضد القبر. ومن جهة اخرى هم يريدونه اسلاما امميا عابرا للقوميات لا يقيم لها وزنا ولا يعتبرونها هوية، ويريدونه اسلاما راسماليا يحول هذه الاممية الى اممية عولمية بكل ما تحمله العولمة من اسس اقتصاد السوق، ومن ليبرالية استثمارية ترسخ الفوارق الاجتماعية، ومن تكوين كارتل اقتصادي عولمي عابر للدول والقارات، وهيمنة هذه الجهة المعولمة على الجهات الاخرى بما فيها المكونات القومية والوطنية والمحلية.

بذا، وليس باحترام الاسلام، يتضح الفارق الايديولوجي بينهم وبين الحقبة الناصرية، تلك التي قامت على الفكر القومي الاشتراكي المترجم بالتاميم والاعتماد على سياسة الانتاج وبالعدالة الاجتماعية، اقتصادا، وبالنضال لاجل السيادة الوطنية والقومية سياسة، وبابراز وتفعيل الخصوصية ثقافة وابداعا. وبما ان صراعات الافكار في العالم العربي لا ترتدي الا قفازات الدم فقد تحول هذا الصراع بين الخط القومي عموما وبين الاخوان الى صراع دام في اكثر من مكان من العالم العربي ومنها مصر، ولم تكن السلطة وحدها من تقمع الا بقدر كونها سلطة، لان المشكلة في العقلية وليس في الموقع ومن يتناوب عليه بدليل ان ما يفعله حكم الاخوان اليوم في مصر يتجاوز بكثير ما صنع نظام ناصر او حتى نظام مبارك نفسه.

من هنا يكون المعيار والمقياس، ما الذي تركه كل فريق من انجاز لبلاده ولامته؟ ماذا حققت كل حقبة على الصعيد الاقتصادي والسياسي والثقافي وعلى صعيد العزة والكرامة الوطنية والقومية ؟ سؤال لا يمكن امامه الا الانحناء لذكرى الرجل الكبير، الزعيم التاريخي، الذي تحول الى رمز وحقبة تزداد حياة كلما ازداد تردي هذه المعاني الكبيرة على يد غيره ورغم ذلك تريد حكومة مصر ان تمحوه من ذاكرة مصر والعرب بالانتقام الصغير من قبره.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون