تاملات في واقع مر

صحيفة الدستور، 22-11-2005

عندما يتم اغراقنا بالحديث عن الديمقراطية، لا يتساءل احد عن عبثية وغرابة كون هذا الحديث المتامرك المغرب لا يقترن بالحديث عن الاحزاب السياسية في العالم العربي. فهل عرف هؤلاء الغربيون ديمقراطيتهم بسلة انزلت عليهم من الفضاء ؟ وهل جاء التطور الديمقراطي الا عبر صيرورة طويلة تبلورت فيها شخصية الفرد وانتماؤه المجتمعي، بدلا من انتمائه الفئوي، وذلك عبر احزاب سياسية واضحة تنظم عملية الصراع الفكري في المجتمع ؟ واذا كان واقع الاحزاب العربية غير ذلك، فهل يجوز رمي الطفل مع ماء الحمام ( كما يقول المثل الفرنسي ) ؟ ام ان الموقف الصحيح هو اعادة قراءة التجارب الحزبية، خاصة تلك التي لم تصل الى الحكم. قراءة ربما قادتنا الى جملة من عناصر التشابه، خاصة بين تلك الاحزاب التقدمية. قراءة تشكلت من مجموعة تاملات، عندما دعاني القوميون الاجتماعيون في باريس الى احتفال بمناسبة ذكرى تاسيس حزبهم : تاملات بدات بملاحظة تاريخية فمن الفكر الى الماسسة، ومن 16 تشرين 1932 الى 16 تشرين 2005. كم قاوم هذا الحلم وكم قصر عنه الواقع ! من ايمان رجل باجيال لم تولد بعد، الى اجيال ولدت وكل ما يضمن اجواء الايمان يتهدم من حولها. من يد رجل اراد ان يرتق جراح امته، يعالج امراضها ويبلور ذاتها ومن ثم ينظم قواها الفاعلة الى مشارط توسع الجرح وتفعل الامراض تمحو الذات وتبعثر القوى. فهل ارتحلنا حوالي قرن بين حواف هذه الجراح ليبرز اكثر عظمنا في قاعه ابيض كالموت مكشوفا كالحقيقة؟ هل يمكن لنا الا نقف بصمت كلي في لحظة الذكرى لنسال انفسنا والاخرين : لماذا لم يكن من الممكن وقف العواصف والمعاول ؟ لماذا لم تؤت التضحيات الهائلة التي قدمها المناضلون العرب، على اختلاف احزابهم وايديولوجياتهم ثمارها كما يجب، وبتعبير اخر : لماذا كان المردود اقل بكثير من الثمن ؟ لنصل الى اسئلة اخرى : هل كان تاسيس الاحزاب في بلادنا وماسسة فكر يعني الانغلاق والاقصاء ؟ هل كان ذلك مدخلا للجمع ام للتفريق ؟ جسرا للانتشار الاوسع ام للاقتصار الفئوي ؟ الاسئلة ككهوف الساحرات، واحدها يؤدي الى الاخر ولذا فلنتوقف هنا كانت الطاقة التدميرية للعاصفة اكبر من الطاقة الدفاعية لاي حزب وللامة، ولكن عدم انكار المؤامرة الخارجية لا يجوز ان يسمح لنا اطلاقا بالاتكاء عليها ورمي كل شيء على ظهرها. كما ان احدا لا يستطيع ان ينكر دور اجيال المناضلين في مقاومة الدمار. غير اننا لا نستطيع ان ننكر ايضا ان قدرا كبيرا من الطاقات قد تبعثر نتيجة ظروف وعقليات منها ما يتعلق بالداخل ومنها ما يتعلق بالخارج. واذا كانت ماسست الفكر في حزب سياسي واضح التنظيم دقيقه امرا ضروريا، فذلك لايمان ووعي بامرين اساسيين : الاول ان ما من شيء يمكن ان يطلق طاقات الامة الكامنة الا اطلاق الصراع الفكري المنظم والحر. والثاني ان الماسسة هي قاعدة الانطلاق لكل مشروع تحديث وبناء يعبر بامة خارجة من قيد الاستعمار والتفتت الى ساحة الامم الحرة المتقدمة. يضاف الى ذلك مسالة خاصة بنا هي المواجهة المفروضة مع المشروع الصهيوني، حيث لا يمكن مواجهة حركة منظمة كالحركة الصهيونية الا بحركة منظمة مماثلة( وذاك ما كتبه انطون سعاده من الثلاثينات ).

من هنا فان اهم ما علينا ان نفعله هو محاسبة النفس على كل من هذه الاسس. ومن ثم العبور الى محاسبة اخرى على مسالتين الاولى تتعلق بسؤال الجمع والتفريق، والثانية تتعلق بسؤال الانتشار.

ان اهم نظريات الاستراتيجية الصهيونية بالنسبة لنا هي استراتيجية التدمير الذاتي : حيث تقوم الطائفية، والعرقية الاثنية، والفئويات على اختلافها بتامين تدمير يفوق ما يستطيعه العدو، ولا يكلفه شيئا. ولنعترف اننا نحن في كل الاحزاب العربية – ونحن نحارب بكل قوانا هذه الامراض المدمرة ذاتيا – مارسنا من جهة اخرى سياسات تدمير ذاتي بحق انفسنا. وعلينا ان نراجعها اما الانتشار، فالحزب الذي يعتبر نفسه حركة هو حزب الامة، ومن هنا فهو مطالب بأمرين معا : الحفاظ على الماسسة والنظام، لكن مع الانفتاح الكامل على جميع الحركات الاخرى والمواطنين الاخرين. فكم منا كان كذلك ام اننا تخندقنا ورحنا نطلق النيران حتى غطى الغبار وجوهنا وحجب واحدها عن الاخر، بل ووقعنا في خطا المذهبية ؟ ويبقى جانب قد يكون الاهم لانه الجانب المتعلق بمعنى النهضة، وهو ان الماسسة لم توضع لذاتها، وانما لتكون مدخلا لدفع وتفعيل الابداع وضمانا لضبط التقدم، ولتنظيم الساحة الوطنية على اساس حرية الصراع الفكري المنظمة.

فدفع وتفعيل الابداع يؤمنان التقدم والنظام يؤمن ضبطه لتحقيق الارتقاء الحضاري. دون ان يكون المقصود من الضبط تقييد الطاقات او الحريات الخلاقة. وهنا لا بد لنا ايضا من ان نتساءل حول كفاية الحصة التي منحتها الاحزاب لعملية الابداع الثقافي والعلمي : من الاداب على اختلافها الى الفنون على اختلافها الى البحث العلمي في جميع المجالات، خاصة تلك التي يقصر عنها الاخرون عن قصد او عن غير وعي. الى التطوير اللغوي، واللغة روح الامة الناطقة، وحاضنة حضارتها وثقافتها.

اما خوض ساحات الصراع الفكري فهو السبيل الوحيد لبلورة بداية المشروع الديمقراطي، الذي يبدأ من بلورة فكر وشخصية الفرد في اطار انتمائه الى الجماعة – الامة، بدلا عن شل فكره وتذويب كيانه في كيان الطائفة او القبيلة او الجماعة الاثنية. انها لمعركتنا الكبرى المستمرة الى مدى غير منظور، لانها معركة البناء مع الهدم وما يتم هدمه اهم من المادة واهم من الافكار، ان هو الا منظومة قيم تشكل خصوصية الخط الفكري لكل امة من امم العالم. معركة جوهرها الحقيقي هو الحفاظ على الذات من الاندثار الكلي في طوفان تهويدي وهلامية عولمية. توضع في خدمة تنفيذ مخططهما كل الامراض التي يتوجب على الفكر الحزبي ان يحاربها، وعلى راسها الطائفية والعنصرية الاثنية، والتخلف والتبعية للثقافيين، والفساد بمختلف اشكاله، وكله في حضن تجزئة ندين بها لوزيرين اوروبيين، وثقافة سوق ندين بها للامبراطورية الجديدة.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون