“مصدر قوتنا هنا، الحفاظ على قوتنا وامن بلدنا، تدعيم الامن في الداخل، ترتيب بيتنا الداخلي ماليا. ”
بهذا العبارات حدد الرئيس الاميركي حرفيا اولويات سياسته في المرحلة المقبلة، ومبرر تخفيض الميزانية العسكرية.
انه اعتراف الاميركي البليغ بما نبه اليه عدد كبير من الرؤيوين الاميركيين انفسهم، وفي طليعتهم بول كنيدي، في كتابه الشهير “ صعود وانهيار الامبراطورية “، من ان الاستمرار في التوسع العسكري سيؤدي الى حالة من الانفلاش الباهظ الثمن، التي تؤدي بدورها الى انهيار اقتصادي يكون بداية نهاية الامبراطورية الاميركية. وعليه كان روجيه غارودي مقولته بان نهاية الامبراطورية لن تكون عسكرية ولا سياسية، بل اقتصادية، مضيفا الى ذلك سببا ايديولوجيا سبق وان ركز عليه توكفيل، من ان الايديولوجية التي تقوم عليها الولايات المتحدة هي ايديولوجية المنفعة، اذا ما تهددت تهدد الوجود كله. رؤية ايدها بشكل اخر كل من نعوم شومسكي وهنتنغتون، حيث راى هذا الاخير ان تراجع الولايات المتحدة سيبدا مع تصاعد دول اميركا اللاتينية، خاصة اذا ترافق مع نهوض صيني روسي.
كل هذا لا يبدو غائبا عن قرار الرئيس الاميركي وفريقه، مما يدلل على براغماتية ذكية، وقدرة هائلة على التكيف والاتقاء. كما يدلل على عودة ايديولوجية الى معسكر الانعزالية الاميركية، التي تحافظ على تفوقها بحماية قوتها وراء المحيط، وهي الستراتيجية التي خرج عليها بتطرف المحافظون الجدد.
لكن ذلك كله، لا يعني ما يتمناه الكثيرون وخاصة القطاع الاكبر من العرب، من ان واشنطن ستسحب يدها من التدخل في شؤوننا، وشؤون العالم. فالرئيس كان واضحا في كلمته المقتضبة من حيث استبدال العمل العسكري ( الحروب )، بالعمل الاستخباراتي ” التبادل الاستخباراتي ” من جهة، وبتوكيل الاخرين بحروب الولايات المتحدة في العالم : انفاقا وتنفيذا. بما عبر عنه بالقول متابعة الاستثمار في علاقاتنا الدولية، معطيا الحرب الليبية كنموذج لهذا الاستثمار.
من ليبيا ندخل الى انعكاس هذه الرؤية الجديدة على المنطقة : فهناك كرر اوباما عبارة اعادة البناء، لان هذه الاعادة في دولة ثرية مدمرة، كليبيا، ستؤمن وببساطة مصدرا مهما لترتيب البيت المالي الاميركي الذي جعله اولوية، وهنا لا بد من التساؤل حول طريقة اقتسام الكعكة مع الاوروبيين، خاصة الفرنسيين والايطاليين الذين يعتبران انهما من قام بالحرب.
اما عن العراق فقد كان من المضحك ان يقول الرئيس ان المهمة في العراق انتهت بتفكيك القاعدة وقتل بن لادن، فاين صدام حسين ؟ واين اسلحة الدمار الشامل ؟ ومنذ متى كانت مشكلة العراق مشكلة تنظيم القاعدة ؟ ام ان الحاجة الى سحب الجيوش، وتحقق ابرام العقود الاقتصادية والامنية تستوجبان ستراتيجية جديدة، كما قال في مكان اخر ؟
من هناك ينتقل الى افغانستان وتعبير علينا ان نتابع عملنا، تعبير يلتقي مع الاعلان عن افتتاح مكتب لطالبان في قطر تمهيدا لبدء مفاوضات اميركية طالبانية. مفاوضات تؤمن بقاء هيمنة الامبراطورية على سقف العالم المطل على باكستان والصين وروسيا، بقاء مصيري لا مجال للتخلي عنه.
واخيرا يبقى المسكوت عنه، الذي انتظره الجميع : فهل من حرب مع ايران ؟ وماذا عن سوريا؟
خطاب الرئيس بكليته ( ظاهره ومستتره ) يقول ان لا حرب اميركية ايرانية، وذاك ما اكده سحب حاملة الطائرات الاميركية من الخليج، وسحب ايران تهديداتها بشان مضيق هرمز. واذا كان حديث اوباما عن توكيل الحلفاء بذلك، يوحي بانه من الممكن ان يقوم الاوروبيون او اسرائيل بهذا الدور، فان هذا مستبعد لسببين : الاول ان اندلاع الحرب لن يلبث ان يقحم الوجود الاميركي في الخليج، وهذا ما لا تسمح به الستراتيجية الجديدة. والثاني ان اوروبا المازومة اقتصاديا لا تستطيع تمويل حرب من هذا النوع، خاصة بعد ان اثبتت حربا العراق وليبيا ان السيطرة على مقدرات نفطية وغازية لم تمنع الازمة الاقتصادية.
واخيرا سوريا. حيث يثضح ان الطرف المطلوب منه ان يكون الوكيل في التدخل العسكري هو تركيا، لكن تركيا التي كانت في البداية بالغة الحماس لهذا الدور قد تراجعت بشكل واضح، لاسباب كثيرة منها انها فهمت ان الحرب ستكون اقليمية لا عالمية ولا اطلسية، وان مصالحها مع ايران تغلب على مصلحتها في الحرب العسكرية، خاصة اذا ما توصلت القوتان الاقليميتان الى صياغة مخرج سياسي مشترك للازمة..
تحليل ليس له ان يجعلنا ننام مطمئنين الى نهايات سعيدة لازمات منطقتنا، لان بديل حرب الاستخبارات الذي اكد عليه اوباما، وسيتبعه كل حلفائه واتباعه، هو اكثر خطورة، اذا يفاجؤك حيث لا تدري، وما تفجيري لبنان قبل يومين وتفجير الميدان في دمشق بعدهما الا خير دليل على ذلك. خاصة وان المتضررين من التراجع عن خيار التدخل العسكري في سوريا سيجدون في هذا النوع من العمليات افضل وسيلة ضغط لمنع اي حل سياسي، من طبيعته ان يكون حلا وسطا.