قبل يومين كانت صديقتي المكلفة باختيار البرامج الغربية التي تشتريها احدى الفضائيات العربية تقول لي بغضب كم تشعلها الغيرةوهي تمضي نهارها في مشاهدة حياة الغرب، ثم تخرج في المساء لترى كيف يعيش الناس من حولها.
ليس خفيا ان هذه المرأة تعيش في بلد خليجي، إذن فان ما يثيرها ليس الفقر باية حال، لا ولا هو النقص في وسائل العيش التي تسوقها علينا العولمة الاميركية واقتصاد السوق . انه النقص في شيء بل اشياء اخرى نفتقر اليها في هذا العالم العربي الذي لن تنفعه كل مظاهر المستورد الباذخ . النقص في الاحساس بالحرية، والحرية مفقودة وغائبة في وجهيها الفردي والوطني، النقص في الاحساس بالحقيقية فكل شيء مصطنع وكل شيء مقلد، فلا نحن عدنا نحن،ولا يمكن لنا ان نصبح الاخر . انه النقص في الاحساس بالكرامة، والكرامة ممتهنة في بعديها الفردي والعام.
اقرا هذا الصباح الدكتور عبد العزيزربيع في مقالته الجيدة في الدستور، واجدني اتفق معه في اشياء كثيرة لكنني اخالفه في كون الغربي انما يعني بالكرامة والحرية البعد الفردي فقط. صحيح ان اصدقاءنا او محاورينا الغربيين انما يتحدثون عن ذلك، ولكن لسببين: الاول ان هذا المواطن الغربي سواء كان اميركيا ام اوروبيا قد حل بشكل كامل وقاطع مسألة الحرية الوطنية والكرامة الوطنية، ولذا فان متسع الدفاع عن الحرية والكرامة الفردية يصبح مفتوحا بدون حدود . فقد خاض حروبه التحريرية والاستقلالية واستقرت سيادته الوطنية بشكل كامل، واصبحت السياسة بالنسبة له هي العمل على بسط الهيمنة على الاخرين او في احسن الحالات تحقيق مصالحه لديهم . كما خاض ثوراته الداخلية وانتزع بساعده و بدمائه حرياته الفردية كانسان وكمواطن، واصبح عليه ان يسهر على الحفاط عليها وتطويرها والسبب الثاني انه حين يتحدث الينا نحن عن حرياتنا الفردية او حتى الفئوية فان قلبه لا يكون منفطرا علينا كافراد او فئات، وانما يريد العزف على وتر حساس، او كما يقال، الحك على بيت جرب، يعرف مدى عمقه لدينا، والهدف الوحيد هو ان ينسينا قضية الحرية القومية، ويبعدنا عن الصراع لاجل الحقوق و الكرامة الوطنية.
والسؤال المرير هنا: لماذا يكون علينا نحن ان نضحي بواحدة من اثنتين : اما حقوقنا الفردية واما حقوقنا الوطنية. في حين انه من المستحيل تحقيق واحدة دون الاخرى؟
لقد دلتنا تجارب نصف القرن الماضي على ان خطاب التحرير والوحدة على حساب حرية المواطن وحقوقه الانسانية والسياسية، قد ادى الى الفشل الذريع الذي نعيشه اليوم. فاذا الصراخ باسم الامة على حساب انين افرادها يدفع بها وبهم الى دمار لم نعرف أسوأ منه في تاريخنا . وها هي تجربة المرحلة الجديدة التي بدأت مع انهيار جدار برلين والنظام العالمي الجديد الذي ترجم بالنظام الاقليمي الجديد، تدفعنا بشتى الاغراءات والوسائل الى ان نرفع صوت الصراخ الفردي بحيث نخنق صوت الامة المحتضرة.
اعود الى الغيرة، وببساطة بريئة اخرج الى حدائق باريس وشوارعها، انظر الى اطفالها وعجائزها، ادخل مركز الابحاث التابع للجامعة التي اعمل ضمنها، واعود الى بيتي، الى التلفزيون، انتقل من المحطة الفرنسية الى ارتي المختصة بالثقافة الاوروبية، الى الجزيرة والمشاهد التي تعرفونها…. شيء اكبر من الغيرة، اكبر من الحقد!! … ورؤساء الدول الثماني الصناعية يحتلون الشاشات، الى جانب موتنا المتعدد الوجوه، انتهاء بنيقولا ساركوزي يتحدث عن ضبط الهجرة… اية هجرة؟ اوليس القطاع الاكبر من المهاجرين الذين يتحدث عنهم هذا الوزير هم أولئك المساكين الذين تلفظهم اوطاننا الطاردة؟؟