منذ اغتيال الحريري والسؤال الكبير الذي يتداوله الناس، والذي قد لا يلقى جوابا على الاطلاق، هو من الذي قام بالعملية ؟
غير ان المنطقي ان يتوزع هذا السؤال على ثلاث : من الذي اتخذ القرار ؟ من الذي خطط للتنفيذ ؟ ومن الذي نفذ ؟
السؤال الاول هو سؤال ستراتيجي يحيل الى خطة كل من الاطراف المعنية بالمنطقة، حيث تتجاوز الانعكاسات لبنان، بل والمنطقة العربية الى الشرق الاوسط وايران تحديدا.
اما السؤال الثاني فمتعلق بقدرات تكتيكية تقنية، تتطلب مستوى وخبرة عريقين. في حين يظل الثالث ابسط هذه الاسئلة.
وفي مسار التفكيك هذا، لا بد من التوقف عند امر يعرفه اللبنانيون الذين عاشوا ويلات الحرب الاهلية، وكانوا على معرفة بمفاتيح التفجير فيها.
فعندما انتهت الحرب الاهلية اللبنانية، بدا وكان السلطة اللبنانية قد استوعبت قادة الميليشيات التي صنعت تلك الحرب، حيث دخل امراء الحرب الحكومة على التوالي، باستثناء ميشال عون الذي ذهب الى المنفى وسمير جعجع الذي احتجزه السجن. لكن الذين كانوا يعرفون الساحة اللبنانية، كانوا يعرفون جيدا ان الذين كانوا يصنعون الحرب، ويديرون مجرياتها الرهيبة من معارك واشتباكات، من قتل وتدمي وتفجير، ليسوا هؤلاء الامراء المعلنين. ثمة اسماء خطيرة ومخيفة، يعرفها اللبنانيون واضحة او باسماء حركية، هي التي كان مجرد سماعها يثير الرعب، وهي التي كانت مرتبطة امنيا باسرائيل مباشرة.
هذه الشخصيات هاجرت كلها بشكل سري، معظمها الى الولايات المتحدة، ومن هناك، لا يدري احد الى اين، وعبر من، ومع من ؟
هل ذهب هؤلاء الى الخارج للتجارة او للعلم، كما كان حال المهاجرين اللبنانيين دائما ؟ هل تابوا بمجرد ان اتفاقا قد وقع في الطائف ؟ وهل ان بامكانهم ان يقرروا من طرف واحد فك ارتباطهم بالجهات التي كانت تمسك بقيادهم ؟ خاصة اذا تذكرنا المثل المعروف في الغرب،” لا يمكن لاحد لن يصبح موساد سابقا ” وهو مثال ينطبق على جميع الاجهزة السرية في العالم.
هؤلاء الارهابيون الحقيقيون، الذين لم يسمهم احد ارهابيين، لم يحالوا الىالتقاعد، وانما وضعوا في الاحتياط انتظارا للحظة الحاجة.
وعندما كشفت صحيفة النهار قبل اسبوعين عما اسمته ” اللوبي اللبناني في الولايات المتحدة ” متباهية بدوره في استصدار قرار مجلس الامن 1959، بدا الامر لمن يرى الامور من زاوية فرجار اكبر من ثقب الابرة، مضحكا مبكيا. مضحك لان شريحة كبيرة من اللبنانيين ما زالت منذ عقود تعيش وهما رهيبا يجعلها تصدق بانها متفوقة ذكاءا وحضارة و ” فهلوية ” ليس على العرب فقط وانما على العالم.ونتيجة لذلك الغباء التاريخي، تتحول هذه الشريحة الى عصاة في يد الاجنبي. عصاة لا يقصم فيها ظهر لبنان فحسب وانما ظهر محيطه القومي ايضا. ليجد اللبنانيون انفسهم متورطين كل عقد او عقدين في صراع اهلي مدمر يزرع البلاد بالدم والنار والاحقاد.
هذا في حين يصدق السذج ان الجهات الاستعمارية تدعمهم، ولا يعرفون انها تستغلهم غير عابئة بما قد يصيبهم.
ما الذي يريدونه ؟ لا احد يدري. الحفنة التي تتصور نفسها قيادات حرب وميليشيات، تحقق مصالح مادية، ولكنها في الاغلب ترضي عقدا طبقية وفئوية وطائفية وصلت حد المرض المزمن. كما انها مرتبطة ارتباطا وثيقا بمافيات المخدرات والسلاح، اضافة الى ارتباطها بالاجهزة الاجنبية.
في السياق الراهن، ومع حادث اغتيال الحريري، لم يسال احد عما يمكن ان يكونه دور هؤلاء ” القادة الامنيون ” الذين يمتلكون خبرة عقدين من الحرب الاهلية، في تدبير العمليات التفجيرية، خاصة اذا ما امنت لهم جهة اسرائيلية او اميركية التقنيات المتطورة،والتمويل.
اما ايجاد عناصر متعاونة، حتى في صفوف موظفي الدولة ( اذا احتاج الامر) فذاك امر بالغ السهولة لاكثر من سبب. والهدف ضرب اكثر من عصفور بحجر واحد : ضرب سوريا، ضرب الحكم، ضرب السنة واحالة هذه الطائفة الى صفوف المعارضة، اي جعلها في خدمة المخطط الماروني الدرزي داخليا، والاميركي الصهيوني خارجيا، رغما عنها. وضرب حزب الله باغتيال السياسي الوحيد في صفوف المعارضة ( وكانت عودته الى رئاسة الوزراء محتومة بعد الانتخابات )، الذي كان ملتزما بالمقاومة، وبعدم بيعها في سوق النخاسة، ضرب اية امكانية للاعتدال والترويفي صفوف الناس،.ضرب الخيار القومي والحريري هو ايضا الوحيد الذي يتبناه من بين المعارضين. خاصة وان الثقل المالي والعلاقات الدولية كانا يجعلان من غير الممكن ازاحة الحريري من الواجهة بطريقة اخرى.
وهكذا يفرح اليوم جميع المتطرفين، الذين يخدم موت الحريري اهدافهم، ويمهد لهم الطريق.
الم يكن موضع تساؤل ان نرى على المنصة لحظة اعلان البيان حول موت الرجل، كلا من امين الجميل، وبطرس حرب، ونائلة معوض وسمير فرنجية، هذا عدا عن ولبد جنبلاط الذي كان اول من تلقف موت الحريري ليطرح نفسه قائدا للمعارضة بلا منازع، وذاك ما لم يكن ممكنا له في وجود الرجل. بل ان ذلك كله يطرح اكثر من سؤال، منها : من من هؤلاء يمثل الحريري وخطه السياسي، هو القومي العربي رغم كل تنويعات المصالح والسياسة. هو المرتبط باكثر من رابط بالسعودية وسوريا على وجه الخصوص. هو الذي اعطى المقاومة مشروعيتها عندما كان رئيسا للوزراء، هوالذي ظل ملتزما بحمايتها في مفاوضات سرية مضت حد قراره باخذ مرشح لحزب الله على قائمته الانتخابية، فيما يكون قد عجل بقرار القضاء عليه، لان سلاح المقاومة هو المطلوب اكثر مما هي سوريا، بدليل ان قبول الثانية بنزع هذا السلاح يبدو كافيا بنظر الادارة الاميركية للتساهل معها، فالخروج السوري مطلب لبناني، في حين ان سلاح المقاومة مطلب اسرائيلي- اميركي، لا تقتصر اهميته على البعد العربي وانما هو امرحاسم في المواجهة مع ايران.
لكن الضوضاء المجنونة التي اعقبت الاغتيال، سواء منها ما كان طبيعيا او مفتعلا، قد حجبت كل صوت اخر غير تلك الاصوات العالية التي تتوزع على خطين : خط صرخة الفجيعة، وخط صرخة اخرى لا يصدق متبصر انها متلهفة الى هذا الحد على رفيق الحريري، فهؤلاء الذين اسرعوا الى المتاجرة بموته ، والتظاهر بالغضب والتفجع، كانوا من اشد الكارهين له عندما كان في الحكم. كما ان السرعة القياسية التي صدرت بها ردات فعلهم تقول لاي مراقب انها كانت معدة سلفا وبكل تفاصيلها. دون ان يعني هذا الاعداد ان الجميع كانوا متواطئين، لكن رؤوس المعارضة كانت تعرف تماما بنود خطة المرحلة، وتعرف ان تفجيرا ما لا بد وان يحدث، حتى ولو لم تكن تعرف كنهه.