اكرهه شارع الشانزليزيه، اجل اكره الشارع البديع الممتد من جزر الزهور الرائعة الى قوس النصر.
هل من معتوه يكره كل هذا. يكره الشارع الذي يستحق كل عام شرف الاحتفال بتحرير فرنسا مرتين: تحريرها على يد ثورتها التي حملت مبادىء الحرية للعالم، وتحريرها من الاحتلال النازي.
لكنني اكرهه. لانني اكره ما نحن، فيه، على ارصفته وفي مقاهيه، في مخازنه وفي مصارفه !
اكره الوجود العربي في الشانزليزيه، ولا احتمل الذهاب اليه في فترة الصيف…. مثلي كثيرون من الفرنسيين، والكثيرون من العرب الذين اشبههم !
الفرنسيون يكرهونه لانهم يقولون انه يصبح شارعا سياحيا فحسب…. وللعرب الاثرياء… يقولونها باستخفاف ان لم يكن باحتقار.. والعرب الذين يشبهونني يكرهونه لانهم يخجلون من معظم العرب الذين يرتادونه.
اليوم اضطررت الى الذهاب اليه، لم اكد اسير خطوات حتى غمرتني رغبة مجنونة بالصراخ :
لا لسنا كلنا هؤلاء الذين ترونهم هنا، نحن هناك شيء اخر، ونحن هنا شيء اخر.
نحن هناك مقاومون يتعذبون ويموتون كل يوم ليكون لبلادهم يوما قوس نصر كهذا الذي يتحداني، يبكيني، ولا يرى فيه العرب العابرون الا معلما يساعد على تحديد موقع مطعم او مقهى او مخزن او كباريه…. وفي احسن الاحوال تحفة معمارية يتفرجون عليها.
نحن هناك عمال وفلاحون وكتاب وفنانون ونقابيون نسعى كالنمل ليس فقط لاجل اللقمة التي تصبح كل يوم اكثر صعوبة وانما ايضا لاجل تأمين موقع لبلداننا تحت الشمس….موقع ؟!! ربما بات يعني مجرد البقاء، البقاء الجمعي لامة ولمجتمع ولشعب ولحضارة.
نحن هناك نساء لا تشبهن هؤلاء المتسوقات بالعدد وبدون قياس، وبدون حساب، نقاتل لنربي اولادنا ونقاتل لنكون نحن، لنحقق حريتنا بالعلم والعمل واثبات الذات.ولا تشبهن ابدا تلك الاخريات المتسكعات ليلا هنا على الارصفة والمقاهي وميزتهن على مومسات فرنسا انهن يتكلمن العربية.
نحن هناك شعوب تكتب الشعر، وتنسج الرواية، وتناضل لأجل مسرح طليعي. رغم ان ميزانيات الابداع كلها لا توازي ميزانية ذات صيف لثري نفط في احدى عواصم الغرب.
نحن هناك امواج من الناس تتدفق في الشوارع كما كل البشر الساعين الى الحياة، ولكن كل البشر ليسوا مثلنا محظورة عليهم الحياة الطبيعية لانهم مصابون بسرطانات الاحتلالات، وسل الفساد، وطاعون الاتنيات والطائفيات الذي دفع علينا فتلقته اجساد المرضى وفاقدي المناعة واضحى على الاصحاء ان يتحولوا كلهم الى مكافحة الوباء.
وحتى هنا… رحمة بنا هنا، نحن هنا طلاب وباحثون، كتاب ومبدعون نحاول نعمل بكد وجد. لم نات الا طمعا في علم او لان ارثكم الظالم جعل اوطاننا تلفظنا…
هؤلاء الملفوظون من مغرب ومن مشرق، المكدسون بين باحث عن حرية وباحث عن لقمة لا علاقة لهم بهؤلاء اللافظون المتسكعون في الشارع الجميل الذي اكره.
اكرهه يوم 14 تموز، وانا أسأل عن ثورة لي، وانا أسأل عن السبب الذي لا يجعل مبادىء ثورته تنطبق على ناسي.
واكرهه يوم التحرير من النازي لانه يذكرني بان يوم التحرير في بلادي ما يزال بعيدا… يذكرني بكم الموت والعذاب الذي دفعه ويدفعه اهلي بسبب هذا الغرب، وبسبب تخلفنا الذي لم يكن الغرب والشرق بريئين منه .
اكرهه الشارع، ام اكره فضائحنا فيه.
اعشق روائح فرنسا في الشانزليزيه واكره رائحة السوق وقيمه، رائحة النفط والبغاء الممتدة من كفر الثروة الى كفر الفقر وما يربطهما من احتقار القيمة الانسانية.