في العمق هي معركة اخرى مع اسرائيل، فالفلسطينيون اذ يخوضون معركتهم الرئاسية (بعد المحلية) بهذا الشكل الديمقراطي انما يسجلون على دولة الاحتلال قدرتهم على ممارسة العملية السياسية الحقيقية وينزعون من يد هذه الدولة ادعاءها بانها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة.
وهم اذ يتوزعون حول هذا العدد من المرشحين ويقيمون التحالفات والائتلافات حول هذا المرشح او هذا البرنامج، انما يخوضون اللعبة على حقيقتها ويكسرون ارقام التسعينات بل والتسع والتسعينات العربية.
والفلسطينيون اذ يضعون مرشحيهم في وضع من يضطر الى تقديم برنامجه المفصل حول جميع القضايا والى الوعد بالاستفتاء ويجعلون ابا مازن مضطرا لان يتقمص شخصية ياسر عرفات حتى في تعابيره وعباراته وحركاته واشاراته، التماسا لرضى الناخب، الذي لن ينسى الرجل الذي عرف حدود المحرمات ووقف عندها بثبات في كامب ديفيد ليدفع حياته ثمنا لذلك في رام الله.
واذا كان التاريخ قد علمنا ان القادة الذين يموتون ميتات طبيعية لا يتحولون الى ابطال تراجيديين، وبالتالي لا يشكلون الهاما وشحنا عاطفيين لمواطنيهم على مدى تاريخ بلادهم فان العكس هو الصحيح من هنيبعل الى زنوبيا ومن كليوباترا الى نابليون ومن غيفارا الى اللندي، غير ان ما هو صحيح ايضا كون هؤلاء القادة قد شكلوا تجسيدا لاحلام شعوبهم، ولذلك ظلت ذكراهم مصدر شحن.
على هذه الاحلام راهن المرشحون الفلسطينيون السبعة وبنوا خطابهم كل من زاوية رؤيته، وبذا كانت المعركة تدور في صميم الشعب وفي مواجهة الحلم الاخر النقيض.
غير ان الجانب الاكثر اهمية في خريطة الرئاسة الفلسطينية انها وبالرغم من وقوعها تحت نير الاحتلال، قد تمكنت من قلب طاولة الخريطة التي اعدتها الدوائر الصهيونية والغربية للمنطقة ومن تسجيل نجاحات في تنفيذها، حيث اريد للعالم العربي ان يتوزع سياسيا على اساس عرقي وديني مذهبي كي تكون صيغته وخطابه متناسبين تماما مع الصيغة والخطاب الصهيونيين القائمين على العنصرية العرقية والدينية ففي عالم يتشظى بين ماروني وقبطي وسني وشيعي، بين كردي وتركماني وعربي و.. يكون الكيان اليهودي طبيعيا ومقبولا ويكون خطابه العنصري مبررا، في حين لا يكون الامر كذلك ابدا في ظل معادلة تعددية حضارية على الطرف العربي واحادية عنصرية على الطرف الاسرائيلي، من هنا يكون التوزيع الذي شهدته الساحة الانتخابية الفلسطينية ردا ونقضا بحد ذاته، رد يواجه اسرائىل كما يواجه الحالة العربية المريضة بما يناسب اسرائىل، ففي فلسطين لم يصنف المرشحون لا ولا مؤيديهم على اي اساس اثني او طائفي، وانما على اساس سياسي بحت، فهذا فتح وهذا شعبية وهذا ديمقراطية وهذا يسار وهذا اسلامي الخ.. وبذا تكون هذه الساحة الوليدة (انتخابيا) قد ارست القواعد الحزبية الاندماجية التي تقيم تعددية سياسية تذوب فيها التعدديات الاخرى التي تشكل مكونات الوحدة الوطنية.
اي تناقض جوهري مثلا مع ما يحصل على الساحة العراقية من تشظ لا يبقي ولا يذر تطلق عليه اسم الانتخابات! واي تناقض مع تعددية المرشحين في ظل الرئيس الواحد والبرنامج الاوحد! بل وأي تناقض مع اسرائيل التي تحدد نفسها (دولة اليهود) علما بان الاعلام الغربي حاول ان يحور المسألة كلها – كالعادة – وان يجير هذا الانجاز الفلسطيني بالقول ان اصحابه تعلموه من اسرائىل، لم يقل انهم تعلموه من عذاباتهم ودمائهم، من طبيعة حركتهم الوطنية التي لم يتغير شيء من مكوناتها مع انتقالها من ساحة الكفاح المسلح الى ساحة الصراع السياسي.
لم تكن منظمة التحرير تجمع ملائكة، كما لم تكن المنظمات التي ولدت بعدها حشد قديسين، لكنها كانت رغم ذلك نموذجا نضاليا للعرب وللعالم، كذلك فان هذه التجربة الانتخابية ليست مثالية ولا بقليلة الشوائب ولكنها رغم ذلك نموذج سياسي يؤسس لدولة المستقبل، بشرط واحد هو ان تتكرر بشكلها الحقيقي في نهاية كل دورة، ان تؤدي الى تداول السلطة، وان تفسح المجال لتنمية الحياة الحزبية التي لا تترك مجالا للفساد ولخيانة احلام الناس.