بعد الحرب العالمية الاولى كتب السير كوكس، حاكم العراق من قبل الاحتلال البريطاني، في رسالة موجهة الى حكومته في لندن: اقترح ان نحتفظ ببلاد ما بين النهرين تحت السيطرة البريطانية . ويجب الا نسمح اطلاقا بان يكون بامكانها الاتحاد سياسيا مع سائر العالم العربي.
هذه الرسالة كشفها جاك دوفين مؤسس وكالة الصحافة الفرنسية، عام 1953 في كتاب بعنوان »العراق غير المستقر «. كتاب لم يعرف طريقه الى النشر الا عام 1991 حيث صدر عن دار غوتنر في باريس.
وفي عام 1922 كتب تشرشل يقول: لقد وصلت باستقلالية كاملة الى الاستنتاج بانه طالما ظل الاميركيون مستبعدين من المشاركة في بترول العراق، فاننا لن نرى نهاية لمشاكلنا في الشرق الاوسط .
تشرشل توصل الى ذلك الاستنتاج بعد ان تمكن الاميركيون من اعاقة اقرار الانتداب البريطاني الفرنسي على المنطقة.
منذها والشراكة الاوروبية الاميركية في الهيمنة على منطقتنا تبدو قدرا محتوما، كي لايعيق طامع اطماع الطرف الاخر.
واذا كانت سايكس بيكو الاولى قد سبقت هذه المقولات التي لا تشكل الا حبة صغيرة في كوم حصاد الحرب العالمية الاولى، الذي طمر رؤوسنا تجزئة واخضاعا وابتزازا، فان مضمونها لا يشكل فقط ستراتيجية قصيرة الامد تتعلق بتلك الفترة، وانما ستراتيجية بعيدة المدى تنتظم تعامل العالم الغربي مع امتنا . ستراتيجية لن تكون اسرائيل يوما الا توأم النفط في تحديد اسسها.
واذا كانت هذه الستراتيجية قد تعززت بعد الحرب العالمية الثانية، مع انشاء دولة اسرائيل، فان انتهاء الحرب الباردة قد جعل الساحة ممهدة امامها بشكل اكبر منذ العالم ،1990 غير ان عذر انتهاء الحرب الباردة، وسقوط التوازن الدولي بين قطبين، ذاك التوازن الذي كان يسنح للعرب، ان ارادوا باللعب على تناقض المصالح بين الطرفين والخروج من ذلك بمنفذ ولو ضيق، ليس عذرا قاطعا، وكفى الله المؤمنين شر القتال … فالمصالح الدولية ما تزال قائمة ومتضاربة، طالما ان الدول ما تزال موجودة على خارطة الكرة الارضية، وحكومات هذه الدول قد تختلف في رؤيتها لمصالحها الوطنية وكيفية تحقيقها لكنها لا تختلف ابدا على العمل على ذلك . في حين اننا نحن ما نزال نعيش منذ بداية القرن وحتى اليوم، ذلك التوزع الحاد بين طلائع مقاومة تناضل بعناد لخلق واقع اخر غير واقع الذل والتبعية والتجزئة، وبين شريحة خانعة متخلية تعتبر الهزيمة قدرا والتعامل مع السيد حكمة وتذاكيا الى جانب نظام رسمي لا يشكل في واقع الامر- عدا استثناءات نادرة – الا تجمع وكلاء الهيمنة الاجنبية، الذين يعيشون خوفا مزدوجا : الخوف من الاجنبي الذي يستطيع شطبهم بشطحة قلم والخوف من الشعوب التي لا تحلم الا بتغييرهم، وككل الخائفين المتمكنين يصبح هؤلاء اكثر استعدادا للقمع والمنع وكم الافواه وغل الايدي.
من هنا يصبح النضال ضد حالة التجزئة وضد الاستعباد الاجنبي، هو نفسه النضال لاجل ارساء حالة ديمقراطية في مجتمعاتنا، ديمقراطية لا تشبه باي شكل تلك الملهاة الماساة،تلك الاقنعة المشوهة التي جاءنا بها الاميركيون واصروا على تسميتها ديمقراطية.
واذا كان السؤال الذي لا بد وان يطرحه الكثيرون هو عما اذا كانت امكانيات المقاومة ممكنة ازاء ستراتيجية نجد تجلياتها واضحة منذ التاريخين المذكورين اعلاه، وقبلهما، فان الجواب يأتي ايضا من ثنايا السؤال نفسه، حيث ان استمرار انبثاق حالات المقاومة، وعنادها، واشتعال محاولات التغيير هنا وهناك دون توقف على امتداد القرن، رغم كل الستراتيجيات، يثبت ان في هذا الشعب طاقة استثنائية على الثبات والحياة، وعناد استثنائي في الاصرار على الحرية والكرامة .
كما ان استمرار الحس الشعبي الوحدوي، رغم كل المحاولات المستميتة لقتله، يثبت ان هذا الموت مستحيل، وان المثل الشعبي البسيط الذي يقول: ما مات حق وراءه مطالب، هو مثال بليغ بليغ.