قبل أربع سنوات كان دبلوماسي إفريقي من أصل مغاربي يحدثني في باريس، بمرارة، عن الصراع الصيني الغربي في إفريقيا بشكل عام، وفي خليج النيجر بشكل خاص، والأهم هو استغلال “إسرائيل” لهذا الصراع للتسلل إلى كل مكونات المجتمع والطبقة السياسية الإفريقية، في ظل غياب كامل لاستراتيجية عربية على تلك الساحة، رغم ما تشكله من اهمية اقتصادية وجيوستراتيجية للعالم العربي.
وعندما سألته عما إذا كان نفط النيجر يمكن أن يشكل منافساً أو بديلاً للنفط العربي والإيراني على الساحة الدولية، أجابني إن الولايات المتحدة تعتمد على نفط النيجر بنسبة 40 في المئة، وإن الشركتين اللتين تستخرجان هذا النفط هما “باري با” الفرنسية و”شل” البريطانية الهولندية. غير أن الرهان الكبير يدور الآن حول إمكانية حلول شركات صينية على الساحة، ما سيعزز تأثير القوة الصفراء الصاعدة، ليس فقط على إفريقيا، بل وبالتالي على الولايات المتحدة المستوردة، وعلى الشركات الأوروبية المنتجة وعلى دول الخليج العربي وايران وسائر أعضاء مجموعة “الاوبك”.
لم تكن يومها قصة مضيق هرمز مطروحة كما هي اليوم، ولكنها قضية سبق وأن أُثيرت خلال الحرب العراقية – الإيرانية. خصوصاً ما يتعلق بتعويض نقص النفط الايراني في حال العقوبات، لكن ثمة تهديدات تجعل الجميع يبحث عن مصادر نفطية بعيدة عن مناطق النزاع شرق الأوسطية، ويبحث بالتالي عن وسائل السيطرة على هذه المصادر الجديدة، ما يفسر احتدام إثارة الموضوع على الأرض وفي الإعلام في تاريخين: عام،2004 بعد احتلال العراق مباشرة، ثم الآن عام 2011 مع احتدام التهديد المتعلق بمضيق هرمز، وضرورة البحث عن نفط بديل في حالة إغلاقه.
من هنا تدور الأسئلة حول حقيقة ما يجري من نزاعات حول ضفاف خليج النيجر، وكيف تحولت الى نزاعات طائفية؟ ولماذا لا يناقش هذا الإعلام شيئاً عن الأدوار المختلفة التي تمارسها مختلف القوى العالمية في اذكاء هذا الصراع، وخاصة منها التدخلات “الإسرائيلية”، باستثناء خبر عابر عن استغلال الدولة الصهيونية لعيد الميلاد المجيد لتوزيع هدايا على المسيحيين الذين تعرضوا لاعتداءات من قبل الاصوليين الإسلاميين؟
في العام 2010 أصدر الاقتصادي الفرنسي توماس بورشر كتاباً مهماً بعنوان “كل برميل من النفط يساوي مئة كذبة”، وهو كتاب لم يركز على عكس ما نتوقع على العالم العربي وإنما على منطقة خليج النيجر.
بين التاريخين أثيرت حملة إعلامية غربية عن هذا الموضوع، انتبهت فجأة إلى إن أنابيب شركتي “شل” و”باري با”، اللتين تستخرجان نفط خليج النيجر، تسرب منها منذ عام،1985 13 مليون برميل من النفط، أي ما يساوي عشرة أضعاف ما تسرب في خليج المكسيك (اكسون فالي) واعتبرته أمريكا كارثة بيئية تساوي 11 سبتمبر.
الكارثة البيئية في نيجيريا قضت على امكانات الزراعة والصيد والماء النظيف، وبالتالي خفضت مستوى العمر لدى المواطن النيجيري إلى 40 سنة، بحسب “امنستي انترناشيونال”. لكن أحداً لم يهتم لعملية الإبادة الجماعية هذه التي تصيب ثلاثين مليون انسان، لانهم يقبعون على بعد 9 آلاف كيلومتر من خليج المكسيك، أي من الولايات المتحدة الأمريكية.
“شل” و”باري با” تدعيان أن التسرب ناجم عن اعتداءات مستمرة لسرقة النفط عن طريق ثقب الانابيب، وبورشر يؤكد أن الأنابيب التي يبلغ عمرها الافتراضي 25 سنة قد بلغت الأربعين، وتبلغ تكاليف تبديلها أو إصلاحها أكثر من قيمة ما يتسرب من النفط. علماً بأن استهلاك المواطن النيجيري من النفط هو أقل من استهلاك مثيله في الغرب بعشرة الى 15 مرة.
في ظل هذه الأجواء من الإبادة الجماعية والفقر، جاءت الجماعات الغربية التبشيرية، وكلنا يعرف أي غطاء تمثله، وجاءت الجماعات الإسلامية الأصولية بأكثر أشكالها تطرفاً وجهلاً، ليغزوا معا شعباً بلغ حد اليأس، وبلغ به الحقد حداً، على حكومته وعلى الطبقة الاقتصادية والسياسية المتماهية مع الشركات التي تمتص دمه.
لكن في هذا الوقت أيضاً جاءت الصين، ومعها عروض حقيقية بالاستثمار النظيف، وتوصلت الى عقد بقيمة 23 مليار دولار لإنشاء مصفاتين حديثتين ومجمع بيتروكيماوي متطور. وهذا ما لا يعجب بالطبع لا فرنسا (باري با) ولا بريطانيا وهولندا ( شل )، ولا الولايات المتحدة (40% من التصدير)، وبامكان هؤلاء ان يحركوا مسيحيي نيجيريا. كذلك فهو لا يعجب القوى التي تحرك الاصوليين الإسلاميين ومنهم “بوكو حرام”، لأسباب نفطية وسياسية، خاصة وأن هذه القوى ليست اليوم ببعيدة عن الغرب. وهكذا، كما في كل مكان يستغل فقر وجوع وجهل المساكين، باسم الدين لضرب بعضهم ببعض، في حروب أهلية تؤمن مصالح الخارج وتضمن تفاقم جهلهم وفقرهم وجوعهم. وفي ظل كل هذا تكون “إسرائيل” الكاسب الأكبر الذي يجد من هذه الفوضى مداخل ممتازة لتحقيق دورها كلاعب مهم في القارة السوداء. دور يزيد من نفوذها العالمي، ويعزز تأثيرها في قضايا الشرق الاوسط والعالم العربي.
ليس فقط في البعد الاقتصادي وإنما أيضاً في البعد الجيوبوليتيكي، حيث يكفينا مراجعة خريطة إفريقيا لنرى موقع نيجيريا وامتدادها النيجر من ليبيا والجزائر وموريتانيا وتشاد ومنها إلى السودان ومصر. والأهم من الجهة الأخرى: المحيط الهادىء الذي أعلنته الولايات المتحدة منطقة أولوية استراتيجية للمرحلة المقبلة.