لعبة الطقوس!

صحيفة الدستور، 16-12-2004

في نظريات الميديا الحديثة ان تأثير وسائل الاعلام على المتلقي انما يخفي نوعا من التواطؤ النفسي. فليس صحيحا اننا نتأثر بما يرسل الينا،مهما كان مدروسا ومبرمجا من الناحية النفسية. لم تعد علاقات التأثير والتأثر مجرد خط يبدا عند المرسل وينتهي عند المتلقي كماكان يظن مبتدعو الحرب السيكولوجية، ومن تبعهم من المنظرين. بل ان هذه العلاقات هي خطوط تبادلية في الاتجاهين وعلى اكثر من صعيد. فنحن كثيرا ما نتقبل التأثير لانه يلبي احتياجاتنا المصلحية او رغباتنا او غرائزنا او احلامنا او حتى انتقاماتنا. الى ما هنالك مما نخفيه دفينا في وعينا او لا وعينا ولا نتجرا على تحمل مسؤوليته بمفردنا. ما هو كائن في مكبوتاتنا التي تفتش عن متنفس يلبيها ولا يحملها وزر تلك التلبية.

تذكرت هذه النظرية الواقعية، وانا ارقب فعالية اخرى، انسانية، ان هي الا استعداداتنا للاحتفال بعيد الميلاد المجيد، مراقبة قادتني الى استنتاجات لا تنطبق فقط على هذا العيد وانما على مجمل الطقوس الاحتفالية. نحن- البشر- يتامى فرح، ولذلك نبحث عن ابتداعه في طقس نمنحه صفة الايمانية، بل ربما تكون تلك الايمانية نفسها تعبيرا عن يتمنا ازاء الحياة، ازاء الموت، ازاء البقاء.

نحن يتامى تواصل، ولذلك نبحث عن جعل المناسبات الطقسية فرصة لاحيائه بضجيج خاص، نحن يتامى الخروج عن الروتين، واسرى المألوف، لذلك نبحث عن مبرر للخروج عليهما دون تنكّب سلوك ثوري . نحن عشاق المتع، على انواعها، ولذلك نجعل من العيد فرصة لممارستها، ومن ثم للابتهاج بها.

نحن، وبكوننا بشر، مشدودون الى الحّسي بكل تجلياته، والحسّي في العيد، استجابة للحواس الخمس : زينة ترى، موسيقى واناشيد تسمع، بخور او سواه من الروائح يشم، طيبات تؤكل، وكله يلمس وصولا الى لمس التبرك.

حسي يتداخل مع الروحي، كما الوجود الانساني في وحدته الازلية . ويضعنا امام فهم تداخل الطقوس وتشابهها، لا في احتفالات الديانات السماوية فحسب بل فيما سبقها من مغامرات للعقل وللخيال في محاولة فهم سر الوجود واكتناه طبيعة الخالق. تداخل وتشابه يتوازيان مع طبيعة المشترك الانساني، ويتكثفان اكثر مع خصوصيات الخط الفكري الحياتي للانسان في بيئة معينة مهما تعاقبت عليها صيغ الايمان وتجلياته.

فكيف لا نرى في الطقس تواطؤا بيننا وبيننا، تواطؤ على ممارسة ذكاء الافعى في نزع جلدها مرة في العام كي تستطيع الاستمرار في الحياة؟

تواطؤ يتحول بدوره الى سلوك غير واع، سلوك تمتزج تلقائيته التي من شأنها ان تريحنا وتمتعنا، بتحوله، بدوره، وفي جوانب كثيرة منه، الى عبء جديد، الى كم من المفروضات التي تضاف الى المفروضات التي تضاعف من كبتنا. فاذا بهذا التواطؤ الجميل على الحياة يرتد علينا لينتقص من حرياتنا

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون