وحيدا كان يجلس الى مائدته وسط المطعم! والليلة ليست يوما عاديا من الاسبوع، انه الخميس وجميع الطاولات الاخرى تعج باناس منهمكين بعضهم ببعض: ازواجا او جماعات..
الطفلة الصغيرة ذات المعطف الجلدي والقبعة التي تزاوج فراء القبة، الطفلة بائعة الزهور، تتجول بين الطاولات، تعرض وردتها الحمراء على زبائن، منهم من يشتري دون ان يهتم لها، ومنهم لا يهتم ولا يشتري.
الوردة الحمراء، رسالة تحمل من المعنوي ما يتراوح بين المجاملة والبوح، لكنها، للطفلة، لا تحمل الا دينارا تتفّه كما كل شيء في هذه الحقبة!
الطفلة الصغيرة تقترب منا، وصديقتي تمازحها، بين فاصلتين: من منا تشتري الورود ولمن؟ بين فاصلتين وتعود لحديث يتقافز من فوكو وخطاب الاعلام العربي، الى الفلوجة والموصل وموت ياسر عرفات، الى قضايا اخرى من تلك التي تحني امرأتان رأسيهما حد التلامس، وتخفضان صوتيهما حد الهمس، اذ تندمجان في البوح بها.
الطفلة تنتقل الى طاولة مجاورة، حيث فتاتان وشابان، علّهم يشترون وردتين معا.. لكن الرجل الوحيد هو الذي يناديها، ويشتري..
يحمل وردته طويلا، ينظر اليها وكأنها تحمل له الكثير: ذكرى؟ امل؟ مجرد اشفاق على الطفلة؟ ام محاولة لكسر احساس الوحدة؟
الوردة تشبهه في وحدتها المطبقة داخل الغلاف البلاستيكي، والبلاستيك الشفاف المعدوم اللون يشبه عينيه الزائغتين في فراغ مفتوح على لا سؤال ولا جواب..
الرجل الوحيد قاسي الملامح، لكنها قسوة لا تعكس الاّ الألم، كثير الخطوط على الجبين والوجه دون ان يكون له من العمر ما يبررها.
على فترات متباعدة يرشف من كأس الجعة الذي امامه، باحساس باد بعدم تمييز المذاق..
يرمي وردته الى الطاولة، يبحر ساهماً، يعود فيتناولها، وينادي النادل بلهجة عراقية طالبا الغاء طلب العشاء، يدفع الفاتورة ويخرج حاملا الوردة الحمراء كما صليب، كما راية سوداء..