مانديلا فلسطين!!…

صحيفة الدستور، 13-11-2004

في المقاطعة كانت صورة ياسر عرفات تقترب من صورة مانديلا، هذا الرجل الذي بدا وجهه يوما على صورة غيفارا ويوما على صورة هوشي منه ويوما اخر على صورة تتراوح بين طرفي التناقض الغريب: فيشي او ديغول، اراد ان تكون له اما نهاية مانديلا او نهاية عز الدين القسام. مفاوضا او شهيدا ظل ياسر عرفات يحمل باعجاز فريد اخطاءه ومنجزاته. وكلاهما كبير بحجم الرهان التاريخي على فلسطين ومن ثم على كل الامة.

لن يستطيع التاريخ يوما الا يكتب ان هذا الرجل دخل معركة القضية وهي منقبة بشعار ارض بلا شعب، يتفق عليه العالم كله، وخرج منها والعالم كله يتعامل معه كرئيس دولة. الدولة والاعتراف لم يتبديا ابدا على الصعيد العالمي كما تبديا واضحين لحظة موت الرئيس الذي اصر منفذو اتفاق اوسلو على ان يطلقوا عليه لقب (شيرمان) تجنبا للقب (بريزيدان) الذي يحمل الدولة ضميرا مستترا.

الاعتراف الدولي بالنضال المشروع، بالشعب، بالقضية العادلة و بالدولة، انهمر بغزارة على الفلسطينيين لحظة واحدة، وكأن روح الرجل تبخرت كماء البحار لتتحول الى مطر يشده لهب الارض اليها.

من جاك شيراك والجنازة الرئاسية في فرنسا الاحتلال النازي وفرنسا التحرير الديغولي، الى روسيا وحديث بوتين عن القضية العادلة والحق الذي لا مجال لمناقشته في دولة مستقلة. لكان ايام الاتحاد السوفييتي لم تنقض. الى الصين وتحية النضال لاجل القضية العادلة واستعادة الحقوق، الى اندونيسيا التي اعتبرت الرجل بطلا وموته مناسبة للتعبير عن دعم اقامة الدولة المستقلة، الى.. .. الى.. الى الامم المتحدة التي طلب امينها العام من ادارته التعامل مع موت الرجل كموت اي رئيس دولة معترف بها دوليا. لانه يمثل التطلعات الوطنية لشعبه.

وما بين هذه الامثلة الكثير مما لا يصب في النهاية في رصيد الرجل بقدر ما يصب في رصيد قضية شعبه، وهنا يكمن المنجز التاريخي لقائد.

هل يعني ذلك ان هذا الموت قد محا من ذاكرتنا اخطاء ابو عمار الكبيرة؟ لكن اليست اخطاء كل منا بحجمه، وبحجم عمله ومسؤولياته؟

اخطأ الرجل كثيرا، ووقع في مطب امراض القيادات العربية في امور كثيرة، دمر الكثير وترك وراءه الكثير من الاراضي المحروقة، لكنه عرف كيف يخرج قضية شعبه منها كما الفينيق من كوم الرماد. طالما اخذنا عليه التنازل، لكنه عندما وصل الى لحظة الحقيقة في كامب ديفيد، عرف كيف يصمد وهو يعرف تماما الثمن الذي عليه ان يدفعه، كان يعني عبارته الثلاثية وهو يكررها : شهيدا، شهيدا، شهيدا.

لكن خطأه الاكبر يظل في دائرة المقربين الذين تركهم وراءه وفي دوائر الانقياء والكبار الذين ابعدهم او قضى عليهم، ولذا فان السؤال الكبير الذي يطرح نفسه الان هو : هل ستكون القيادات الجديدة القديمة على قدر توظيف المنجز الكبير الذي تجلى مع موت عرفات؟

هل ستعرف ان تستغل جو التعاطف والاحترام الدوليين، وجو الاعتراف الحازم القطعي الذي تامن عالميا، كي تاتي الدولة التي تلوح في الافق انجازا حقيقيا لا طرحا مسخا لحمل عملاق؟

هل ستعرف الدوائر المتعددة ان تحافظ على تعدديتها ولكن لتلتقي كلها في دائرة كبيرة واحدة هي دائرة فلسطين، وحقوق شعبها؟

هل سيكون درس السنوات الاخيرة لعرفات، نموذجا اسطوريا لكل مسؤول فلسطيني، يجعله يدرك خطورة حكم التاريخ، تلك التي ادركها عرفات بعمق عندما وصل الخطوط الحمراء، فاعتصم بمطلق الشجاعة ومطلق الخوف : الخوف من حكم التاريخ على من يفرط، والشجاعة في مواجهة مصير من يرفض التفريط. وفي النهاية كسب السجين المسموم معركته. لم يكن له ان يكون مانديلا فكان له ان يكون وديع حداد، وان يحقق بموته مسموما خطوة جبارة على طريق ما اراد تحقيقه طوال حياته.

واذا كان مانديلا ما يزال حلما فلسطينيا، فهل سيكون مروان البرغوثي مانديلا فلسطين؟

هل سيكون دور الطاقم الحالي ان يمهد الطريق، وان يقدم التنازلات المطلوبة، ثم يطاح بهم امتصاصا لغضب الشعب (هذا الغضب الذي ياتي الكلام الاعلامي الكثير عن موضوع التسميم ليساهم بقوة في تأجيجه) واخيرا ياتي السجين الاخر رئيسا للدولة المقبلة متمتعا بدعم الجماهير، وبالتالي قادرا على تسويق المصالحات؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون