رحلت!!

صحيفة الدستور، 13-11-2004

جعلت الاخرين سعداء، اكثر مما كانته هي، تسعة وستون عاما، خمسون كتابا، نجاحات كبرى، اعمال متوسطة وفشل في القليل.

حياة ضاجة بالحب، بالسهر، بالصداقات، بالصخب العام، لتنتهي في السنوات الاخيرة الى وحدة ساكنة كئيبة، في منزل معزول اشترته يوما ولم يعد ملكا لها بعد ان فقدت كل شيء.

منه الى المستشفى انتقلت اسطورة الادب الفرنسي الحديث، لتدخل في غيبوبة طويلة لم تصح منها، ماتت فرانسواز ساغان، صباح اول امس، لتقول فرنسا كلها “صباح الخير ايتها الكآبة”.

لست ادري لماذا ترجمنا الى العربية عنوان روايتها الاولى هذه ب : “مرحبا ايتها الكابة” لتلغ ذلك التضاد المر المقصود بين الصباح والكآبة، الذي ارادته الكاتبة التي لم تكن قد بلغت العشرين لدى نشر روايتها . لكأن المترجم لم يجرب معنى ان تستفيق صباحا والكآبة تبسط جناحيها فوق سريرك وامواج انغامها الملحٌية تنسل من شرايينك ؟ هي تلك الكآبة التي جعلتها الطبيعة ضريبة المبدعين الحقيقيين، ضريبة البشر الحقيقيين، الذين يتجهون لداخلهم بصدق قبل ان يتجهوا به الى سواهم . لانها منهم كتبت ساغان لنفسها قبل الاخرين، لم يعنها النقاد، لم تتقدم مرة واحدة لنيل جائزة، لم تقبل ترشيحا لاحداها، لم ترضخ لحظة لشروط القوالب لا في الحياة ولا في الابداع . لم يحببها مصممو القوالب، لكن الناس جعلوا منها اسطورة.

فشلت في الزواج وفي الحب، اسقطتها هشاشة الروح، وهشاشة النشأة الميسورة المدللة، مضافتان الى شطط اليسار الفرنسي، الذي كانت قربية منه دون ان تنتمي اليه، ¬ اسقطها كل ذلك في الكحول والمخدرات.. لم يحتمل جسدها النحيل الدقيق كملامح وجهها المعروفة، فهوى قبل ان يبلغ السبعين بقليل.

رغم كل امكانات العلاج المتقدمة. كثيرون يقفون امامها وبيدهم السوط : يتهمونها بالبورجوازية، وبالمتمردة، وبالعابثة، يرفعون الاذرع والحواجب.. والسوط امام قصة المخدرات والكحول، والفهم الخاص للحب والحياة.

لكن احدا من هؤلاء لا يهدأ ليقول انها كانت اصدق من الجميع، انها كانت امرأة استثناء، استثناء في كل شيء، خاصة في تناقضاتها، وربما لو لم تكن كذلك لما تركت خمسين كتابا في تسعة وستين عاما من العمر، لم تكتب ايا منها لنا، كتبنها لنفسها بغواية عجيبة، واخيرا تركتها لنا كما تركت كل شيء لنصحو يوما على رحيلها، ينبهنا الى زاوية خفية من التماثل والتشابه بيننا، زاوية ينتشر منها في روحنا صدى مترجع : صباح الخير ايتها الكآبة!!

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون