مرتان اعود الى اليونسكو وانا اقرا صحف الصباح: الاولى فيما يخص الاعلام والثانية فيما يخص المواقع المدرجة على قائمة التراث الانساني والتي يفترض بحسب القوانين الدولية ومعنى هذا الادراج، ان تحظى بحماية دولية. قانونية على الاقل.
والملاحظتان مرتبطتان بخبر واحد: تدمير واحراق اسواق حلب على يد الميليشيات المسلحة.
بدءا باعلام: ففي السبعينات والثمانينات شهدت منظمة اليونسكو حركة قوية شهيرة عرفت بحركة نوميك، قادها رئيس المنظمة انذاك احمد مختار امبو والتونسي مصطفى المصمودي والاوروبي ماك بريد ومعهم عدد من خبراء الميديا في العالم. وقامت هذه الحركة على ما يلخص بمطلبين: وقف التدفق ذي الاتجاه الواحد للمعلومات والاخبار. من الشمال الى الجنوب، ووقف تقديم قضايا العالم الثالث للعالم ولشعوب العالم الثالث نفسها برؤية غربية يفرضها هذا التدفق الواحد. وعندما حظي هذا التحرك بتنظيم قوي ووصل الى اقرار مطالبه داخل اليونسكو، انسحبت الولايات المتحدة احتجاجا واوقفت تمويلها للمنظمة.
في التسعينات سقطت حركة عدم الانحياز والكتلة الشرقية، وانتصرت الاحادية القطبية وعادت واشنطن الى المنظمة وذهبت نوميك الى سلة المهملات، بعد ان كتب بريجنسكي يقول: ” بعد عصر المدفعية وعصر التجارة اصبحت وسائل الاتصال وسسيلتنا للهيمنة على العالم ”
في العالم العربي، انطلقت الفضائيات تترجم مجتمع الاتصال، وادى نجاح بعضها على الصعيد العالمي الى اقناعنا بان اهداف النوميك ستتحق هذه المرة بدون منظمة اليونسكو وعلى يد العرب انفسهم. غير ان خبيرة اميركية جنوبية استبقت ذلك بتحليل متشائم قالت فيه – عام 1991 – ان ما سيحصل هو ان الولايات المتحدة والغرب من ورائها سينجحا هذه المرة في تقديم صورة العالم العربي ورؤية قضاياه للعالم – كما تريد الولايات المتحدة ولكن بلسان عربي ووجه عربي، وهنا سيكون التاثير اشد خطورة.
كل هذا اذكره وانا اتابع منذ سنين تعامل الاعلام العربي مع تدمير المواقع المدرجة على قائمة التراث الانساني، منذ اور العراق عام 1991، الى سائر المواقع العراقية منذ 2003 وحتى الان، وصولا الى اسواق حلب القديمة مؤخرا ومرورا بعشرات المواقع الاخرى، مما لا يتركنا نتفاءل خيرا بادراج مدينة بيت لحم على قائمة التراث الانساني مؤخرا.
المحاولة الاخيرة للتصدي لهذا الموضوع، كانت عام 1991 بخصوص اور، لكن الولايات المتحدة اشترطت – فيما اشترطت – وقف التحقيق في الموضوع لاعادة تمويلها لليونسكو، ومنذها صمت اليونسكو،والانكى ان الاعلام العربي سكت بدوره بتواطوء غريب جبان وحاقد.
وقد ذهلت عندما اجريت بحثا علميا حول العراق مثلا، بانني وجدت عشرات النداءات من اتحادات عربية واجنبية ( صحافيون – اركيولوجيون – تراثيون – علماء- الخ… ) كما وجدت عشرات النداءات والمؤتمرات من علماء غربيين، بل وعشرات اللجان المشكلة للدفاع عن تراث العراق والمطالبة بالحماية والتحقيق… وعندما بحثت بالمقابل عن حضور اخبار عمليات التدمير والنهب للتراث هذه، واخبار النشاطات العربية والدولية للتصدي لها، في الفضائيات العربية، لم اجد الا برنامجا او اثنين حول هذه القضية الحضارية الخطيرة، وانتهيت الى تصنيفها ضمن المواضيع المقصاة عن الخطاب الاعلامي العربي. ( وسيصدر هذا في كتاب قريبا )
هذا في حين وجدت في اعلام الغربي، خاصة الاوروبي عشرات التحقيقات الصحافية والمحاضرات العلمية والافلام – طبعا في صفوف الجهات غير الرسمية – تتتهم الجيش الاميركي ولصوص الاثار والتواطوء العربي، حكومات ومنظمات ومافيات.
كل هذا يعود الى الواجهة الان ونحن نشهد تدمير الاسواق القديمة المسقوفة في حلب والتي تعتبر ثاني اكبر اسواق مسقوفة في العالم، بعد اسطمبول – وتتربع على قائمة التراث الانساني لمنظمة اليونسكو. على صفحات الفيغارو وجدنا فيديو يصور عمليات التدمير وكسر الابواب والاحراق، داخل الاسواق، وفي الصحافة الالمانية وجدنا تقارير وصور، وخبر مهم جدا في دي فيلت، يكشف عن تقرير رسمي للمخابرات الالمانية يؤكد على ان نسبة المسلحين السوريين في الجيش الحر لا تتعدى الخمسة بالمئة، في حين يتشكل خمسون بالمئة من جنسيات مختلفة جاءت الى سوريا بوهم الجهاد او كمرتزقة، كما تقول ان عدد هؤلاء قد بلغ 14 الف مسلح. وهنا يطرح السؤال: ماذا تعني لهؤلاء اسواق حلب؟ او التراث الانساني؟ خاصة اذا كان من يدفع لهم او من يخطط لهم قد وضع عنوانا رئيسيا من عناوين عمله تحطيم الذاكرة الوطنية التراثية والحضارية للبلد؟ ولا نصوغ السؤال هكذا من باب هاجس المؤامرة، بل اننا قد عرفنا كيف ان تدمير الاسواق القديمة في بيروت كان عملا منظما ومبرمجا لالغاء بيروت القديمة واحلال شركات متعددة الجنسيات مكانها. باختصار لتطبيق العولمة بالغاء الخصوصية ( في فترة التحضير لهذه المرحلة) هذا من جهة اقتصادية – سياسية، اما من الججهة الاخرى، فهناك قوى استعمارية وهناك الصهيونية، تنظر الى تدمير الذاكرة العربية كهدف اساسي يؤسس لاهدافها.
نحن لسنا امام عملية استئصال حزب او نظام وانما امام عملية استئصال لبنان من لبنان والعراق من العراق و سوريا من سوريا….وبالطبع فلسطين من فلسطين، اما الادراج على التراث الانساني فذنب في اساس الذنوب والعقاب.