حزينة، مسكينة السيدة أشتون، وربما كان على المصريين أن يقدموا لها مناديل من الدانتيلا لتجفيف دموعها. أي استخفاف بعقول الناس؟ وأي ناس يبرهنون كل يوم على ما يقوله عنا الغرب من أننا شعوب عاطفية، لا عقلانية، ولذلك فإن اللعب على العواطف والمكبوتات والتمنيات هو أسهل طريق يسلكها الغرب الذي بنى نهضته على العقلانية النقدية البعيدة عن العواطف، خاصة في الأمور العامة.
المفوضة العليا للاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون المعروفة بمواقفها المعادية للتيارات القومية العربية، تذكرت فجأة جمال عبد الناصر، ووجدت فيه مدخلاً ولا أفضل لاجتذاب القطاع الأكبر من المصريين والعرب عموماً، ولم تخش السيدة أن يتذكر العرب (الذين يحنون لأيام ناصر) أن من شن الحرب على مصر الناصرية عام 1956 لم يكن الولايات المتحدة، بل فرنسا وبريطانيا. فجأة وجدنا: “أوروبا كلها تحترم عبد الناصر لأنه كان خصماً شريفاً تولى رئاسة مصر في أحلك ساعات التاريخ المصري ولو عاش عبدالناصر لكانت مصر دولة عظمى أكبر من روسيا في الشرق الأوسط”. على حد قول السيدة اشتون.
غير أن الغرائبية لا تكمن في تقدير عبد الناصر بقدر ما كانت في الانتقادات الموجهة إلى نظام حسني مبارك الذي طالما اعتبره الغرب الأوروبي والأمريكي الحليف الأول في المنطقة العربية ولا ننسى أن ساركوزي اختاره لمشاركته رئاسة الاتحاد المتوسطي، كما لا ننسى الاستقبال النابليوني الذي كان يلقاه كلما زار أوروبا. بل إن مركز اليونسكو في باريس كان ينصح كل من أراد منحة بحثية عن العالم العربي بالدخول عبر بوابتين إحداهما سوزان مبارك، لأنها تمول برنامجاً بحثياً ومنحاً.
كيف تحول الحليف إلى مدان يجعل السيدة اشتون تقول “أنا حزينة على مصر وشعبكم، فلقد تعرضتم في مصر لما يفوق الخيال في الاحتيال والسرقات وتجريف الثروات المادية والطبيعية والافتراضية، لو صح التعبير، حتى أن “الفايكنغ” وهم أشرس الغزاة الذين شهدهم التاريخ البشري في أوروبا ما كانوا سيتمكنون من سرقة مواردكم مثلما فعل بكم نظام مبارك”؟
لأنه وببساطة لم يعد نظاماً حاكماً، ولأن الرئيس الكبير (كما كان يلقبه الأوروبيون) أصبح يدخل قاعة المحكمة على سرير وولداه بملابس السجن البيضاء. ولأن مجلس الشعب المصري أصبح يتشكل من غالبية إسلامية تليها قوى قومية وليبرالية. وبما أن الإسلاميين في تحالف مع الولايات المتحدة، فإن على أوروبا أن تجتذب القوى الأخرى، وهل أفضل من ذكرى عبدالناصر وتراً يعزف عليه لتحقيق ذلك؟ لذلك حرصت أشتون على ترداد اسمه مرات خلال تصريحها وذاك ما لا تحتاجه الصياغة.
صحيح أن لدى مصر “ثروات تكفي لمساعدة ربع الدول الأوروبية إذا استغلت تلك الثروات بشكل جيد”- كما قالت اشتون – ولكن الثروة الكبرى التي اجتذبت أوروبا منذ غزوة نابليون حتى غزوة ال،56 هي ثروة الموقع والديمغرافيا والجغرافيا، التي تجعل من مصر، الدولة العربية الأولى والدولة الإفريقية الأولى، وسيدة وادي النيل، مما يفسر حرص أوروبا على الحصول على موطىء قدم فيها أيا يكن الثمن. وهذا ما يفسر الجواب على السؤال: إذا كانت “لدى الاتحاد الأوروبي معلومات وأرقام مؤكدة، كما تقول اشتون عن ما تمت سرقته وإهداره من أموال وأرصدة وثروات مصر الطبيعية خلال ال15 عاماً الماضية من نظام مبارك، يبلغ 5 تريليونات دولار، فلماذا كانت أوروبا تحالفه وتغدق له الثناء والدعم؟ وإذا كان ذلك المبلغ “يكفي لتحويل مصر إلى دولة أوروبية متقدمة”، كما تقول اشتون أيضاً، فهل أن هذا ما يريده الغرب؟ وهل كان العدوان الثلاثي ودعم حرب ال67 ودعم كامب ديفيد والانفتاح الاقتصادي، إلا سلسلة من المعارك في حرب منع مصر من أن تصبح دولة متقدمة؟ وبالتالي ما هي “الخطوات الفعالة.. ذات الطابع التنفيذي” التي قالت إن أوروبا تريدها من مجلس الشعب الجديد؟ وهل لأجل تلك الخطوات أطلقت المفوضة الإغراء بفتح باب أوروبا أمام الشباب المصري والواردات المصرية؟ وأي إغراء هذا اللهم إلا الاستنزاف الشبابي والسوق التجاري بين قوتين غير متكافئتين في الإنتاج.
أما المفارقة الكبرى فهي أن الجملة التي اشترطت الديمقراطية ربطتها بالقول كما كانت مصر أيام عبد الناصر. فمتى اعتبر العالم، وتحديداً أوروبا، عبدالناصر ديمقراطياً؟
أي استخفاف بالعقول؟ أي لعب على العواطف؟ وأي تقاسم بين القوى الغربية لقوانا الشعبية؟