الاعلام الاخلاقي

صحيفة الدستور، 21-08-2004

عندما قدمت لدراسة كان علي ان اعدها في عملي الجامعي عن تلفزيون المنار، بمقدمة حول الاعلام الاخلاقي، وهو مفهوم مطروح هذه الايام بقوة على الساحة الدولية، واطّره الاستاذ الكبير ارمان ماتلار في القمة الدولية الاخيرة لوسائل الاتصال. احتج مير فريق البحث عل ربطي بين الاعلام الاخلاقي وتلفزيون المنار، ورغم النقاش الطويل الذي دار بيننا، لم استطع ان افهم سبب حدته في هذه المسالة.

بعد اشهر فهمت، اذ طرح المجلس الاعلى للمرئي والمسموع تسوية بينه وبين تلفزيون المنار تنص على ان تتعهد المحطة بالالتزام بالمعايير الاخلاقية الاعلامية المعتمدة في فرنسا مقابل الا ينفذ المجلس قراره بوقف بث المنار.

اما المبادىء الاخلاقية، فتعني في المحصلة النهائية لهذه القضية عدم التعرض للصهيونية . ذاك ان الازمة التي تتفاقم منذ اشهر، انما اندلعت بسبب مسلسل الشتات، وبسبب ” الصور التي لا تحتمل التي تبثها القناة” بحسب تعبير الناطقة باسم المجلس . اندلعت بناء على دعوى حركها المجلس الاعلى للمنظمات اليهودية في فرنسا .

المجلس اتخذ قرارا بوقف البث، ولكن هل سينفذ؟

هل ستستجيب اوتلسات ؟

ام سينتهي الامر بتسوية ؟

ام انتقال اوتلسات الى ايطاليا بعد شهرين سيخرج الامر من ساحة فرنسا ويجنب الجميع الاحراج ؟

اسئلة خرجت كلها بالامس من قاعة المحكمة بدون جواب، فحول الطاولة المستطيلة جلس الفرقاء ومن حولهم القاعة محتشدة بالذين جاؤوا للمساندة، للمتابعة او للتغطية الاعلامية،

حضور هؤلاء كان كثيفا وملحوظا، وتوجهاتهم واضحة فهم جزء من المعركة، فاعل وحثيث.

مشاركة منظمات حقوق الانسان، بعض المناضلين المناهضين للصهيونية والباحثين الفرنسين الى جانب الناشطين العرب،اعطى طابع المعركة السياسية الصامتة، كما كان لحضور الاب لو لون دلالة خاصة،فهو المكلف من قبل الفاتيكان بموضوع حوار الحضارات، وهو الذي وقع عام 1982 مع روجيه غارودي بيانا ضد اجتياح لبنان ورفعت المنظمات اليهودية ضدهما قضية خسرتها.

جهود القاضي المضنية لترطيب الجو والايحاء بان القضية مسالة تقنية بحتة لم تنفع في دحر الاحساس العام بالخطورة السياسية لهذه القضية. القاضي حرص على ان يحصر النقاش بين ممثلي القمر الصناعي الاوروبي اوتلسات ومحاميهم من جهة وبين ممثلة المجلس الاعلى للمرئي والمسموع في فرنسا، حول امكانيات التقنيين في اوتلسات لوقف بث تلفزيون المنار. مندوب الحكومة اللبنانية ممثل المجلس الاعلى للاعلام حسن حماده ومعه القنصل اللبناني لم يجدا فرصة للنطق بكلمة واحدة، ومثلهم مدير عام تلفزيون المنار، محامي المنار الذي كان يحاول التدخل اكثر من مرة، كان يجابه برد القاضي : نحن لسنا هنا للبحث في المضمون،تلفزيون المنار ليس طرفا في جلسة اليوم، الجلسة بين اوتلسات والمجلس الاعلى للمرئي والمسموع في فرنسا !!

الاحساس العام تمثل في ان شيئا من القضية لايدور حول الطاولة، الامور كلها تدور تحتها، وما تحتها معركة حامية وصعبة على جميع الاطراف . صعوبة لا تشبه باي شكل محاولات القاضي المتكررة للمزاح والابتسام في جو غير مالوف على الاطلاق بالنسبة لوقار القضاء الفرنسي .

حدة مندوبة المجلس الاعلى للمرئي والمسموع، استشراسها في المطالبة بتضييق المهلة التي يطلبها المحامي، مفاجاة محامي اوتلسات الظاهرة عند كلام السيدة،تؤكد ما قيل من ان اتفاقا، كان قد تم التوصل اليه بالامس بين المجلس وادراة القمر، لم يلبث المجلس ان انقلب عليه تحت ضغط مؤسسات اللوبي اليهودي، التي حركت الدعوى منذ البداية .

اوتلسات من جهتها لا تستطيع منع بث المنار الا وقد منعت معه ثمانية قنوات عربية اخرى، فهل يمكن للقمر من الناحية التجارية البحتة، من الناحية السياسية، ومن الناحية التقنية ان يقدم على هذه المجازفة ؟

الحكومة الفرنسية، وهذا هو الاهم، تجازف بهذا المنع بتعكير علاقاتها بثلاث دول على الاقل : لبنان، سوريا وايران . هذا عدا عن الدول الاخرى التي سيطال المنع محطاتها بالتبعية التقنية.

فهل باريس بقادرة الان على مواجهة ديبلوماسية من هذاالنوع ؟ وهل تتحمل مصالحها ذلك وهي التي تحاول ان تحافظ على موطىء قدم لها في منطقة الشرق الاوسط في حين يحاول الاميركيون ان يقتلعوها منه بالكامل ؟

خاصة وان الدول المعنية بشكل اساسي هي الدول التي ماتزال قريبة من فرنسا وتمنحها افضلية على الولايات المتحدة .

اسرائيليو فرنسا، اللوبي اليهودي الذي لا تهمه الا الدولة العبرية، ومن حوله يجدون في تاجيج هذه الحملة فرصة ذهبية تحقق اكثر من هدف :

الاول سياسي، ومآله ان فرنسا اذ تقع في ازمة مع الدول المعنية ستجد ان لا مناص لها من استرضاء اسرائيل، التي ستتقدم عندئذ بوصفها المنقذ الوحيد للمازق الفرنسي، والمدخل الوحيد الى المنطقة، دخولا لا يتم عندئذ الا بالشروط الاسرائيلية .

الثاني يتعلق بالمجموعة العربية المقيمة في فرنسا او الفرنسيين من اصل عربي، والتي باتت صحوتها تقلق اللوبيهات اليهودية الممسكة بعنف المجنمع الفرنسي، صحيح ان العرب لا يملكون ثروات ومراكز نفوذ كتلك التي يملكها اليهود، لكن الاستخفاف بامر ستة ملايين انسان، امر لا يقع فيه التحسب اليهودي، ولذلك فالمطلوب الملح تقنين ( فلترة) الاعلام الذي يتعورضون له .الم تبلغ الحملة ضد المنار اوجها قبيل موعد تبادل الاسرى بين حزب الله واسرائيل، لما كان متوقع من ان تحدثه متابعة هذه العملية من اثر نفسي على المشاهد الغارق في احباط احتلال العراق؟

اما الثالث فسياسي اعلامي، مرتبط بسابقه،الا هو دفع المنار الى التعهد بالالتزام بما يسميه مقترحو التسوية ” اخلاقيات مهنية ” في مضامين البث، وفي ذلك اعتراف ضمني من المنار بان ما سبق وقدم لم يكن من اخلاقيات المهنة، وبالتالي لم يكن موضوعيا وصحيحا، كما ان فيه بعدا مستقبليا خطيرا وهو اخضاع برامج محطة عربية اسلامية لقوانين الرقابة الفرنسية، مما يعني تجريدها من كل مضمون يتناول اسرائيل.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون