متى؟

صحيفة الدستور، 13-07-2004

فرنسا مشغولة هذه الايام بالاعداد للذكرى الستين لتحريرها من النازية، في الوقت الذي تنشغل فيه بالانتخابات الاوروبية. وذكرى الستين مناسبة ولا افضل ليجير كل طرف سياسي الحدث التاريخي لاستراتيجيته السياسية: بالنسبة للفرنسيين القوميين، هي فرصة لاذكاء روح المواطنة والفخر، ومصطلح القوميين في القاموس الغربي لا يعني ما يعنيه عندنا لكننا لا نجد في لغتنا مصطلحا اخر يضم الديغوليين والجمهوريين والسياديين واقصى اليمين.

واليسار يجد فيها قرصة للتذكير بدوره في المقاومة وعدائه للنازية، مما جعل الحزب الشيوعي يضم غداة التحرير مئتي الف عضو، توزعوا الان على جهات مختلفة يطلق عليها تسمية اليسار التعددي

انصار الاطلسة ودعاة رأب الصدع مع الولايات المتحدة يحاولون ان يجعلوا منها منبرا لاحياء ذاكرة دور هذه الاخيرة في تحرير بلادهم. ومعارضو الامركة او بالاحرى الحلف الاميركي البريطاني التقليدي يذكرون بالقهر الذي عاناه ديغول من طرفي هذا الحلف، هو الذي كان يقاتل على جبهتين في ان معا: جبهة الاحتلال وجبهة فرض فرنسا الحرة على الحلفاء الذين لم يكونوا يتعاملون معه في البداية الا كطرف ضعيف ومحتاج. ففي لقطة ما يقول له تشرشل بفظاظة: »لوخيرت بينك وبين الاميركيين، ساختار الولايات المتحدة، حتى ولو كانت اوروبا كلها معك«.

وفي اكثر من مكان اخر تبرز المرارة التي كان يعانيها قائد المقاومة المنفي، عندما يقرر تشرشل وايزنهاور شيئا يخص فرنسا ولا يطلعونه عليه، او بيانا ولا يستشيرونه في صياغته، يستشيط غضبا ويحتج، لكنه لا ينجح دائما في تعديل الوضع، الا ان الامر يتغير بمجرد ان يصبح على ارضه من جديد.

الا ان الملفت ان اليهود يتوزعون على جميع التيارات، بنشاط حثيث ومنظم لترسيخ عقدة الذنب لدى الفرنسييين ازاء ما حصل لهم وترسيخ فكرة واجب تعويضها بدعم اسرائيل.

فيلم وثائقي طويل بثه التلفزيون هذه الليلة، هائل التوثيق والاخراج، بدا ببداية الاحتلال وانتهى بانجاز التحرير، لكنه بدا ايضا بلقطة للماريشال بيتان يخطب في احدى ساحات باريس ويسمي »اسرائيل« بالاسم منبها الى خطورة اليهود وضرورة التصدي لهم، وينتهي الفيلم بلقطة ايضا لمحطة فيل ديف التي كان اليهود يتجمعون فيها، ووضعها بعد التحرير: الملفت في الفيلم اضافة الى انه لم يترك خمس دقائق تمر دون ان يذكر اليهود، انه كان يستعمل عبارة: »الفرنسيين واليهود« وكان هؤلاء ليسوا كسائر الفرنسيين، ليتركنا نكتشف مع نهايته انه لمخرج يهودي .

خارج قضية الدعاية اليهودية، كان لابد لفيلم كهذا من ان يثير اشجانا كثيرة لم تتاخر في التحول الى دمعة عندما قالت لي صديقتي الفرنسية: متى سيكون لكم ديغول عربي ؟ واضافت: على الاقل هل سيكون للعراق ديغول عراقي؟

وعندما لم اجب اضافت: الا تعتقدين انه على المسؤولين العراقيين الحاليين ان يروا هذا الفيلم او ان يقرؤوا تاريخ ديغول ليعرفوا كيف لا يمكن للمقاوم ان يكون عميلا؟

عندها اجبتها: اعرف اكثر من ذلك يا صديقتي، لكن لا وجه للمقارنة، انت قلت: لا يمكن للمقاوم ان يكون عميلا ، وهذا ما ينطبق على المقاومة العراقية وعلى كل المقاومات في بلادنا، اما اولئك الذين جاؤوا على دبابة الاحتلال فامر اخر، اقل حتى من فيشي.

في لقطة ما من الفيلم يقول ديغول عند تشكيل الحكومة بعد التحرير، عبارة تلخص الرد: هذه الحكومة تستمد شرعيتها من المقاومة، ثم يتوجه الى الجماهير المحيطة به قائلا: لقد تحررت فرنسا بنضال المقاومين ودعم الفرنسيين، كل الفرنسيين الاحرار، بدعم كل فرنسا.

هذا التعبير الديغولي ان هو الا تجل واضح لفكرة الاستقلالية التي شكلت عصب سياسة الجنرال بعد ان تحول الى رئيس للدولة، وهي السياسة التي حاول جاك شيراك وفريقه احياء مضامينها مع الحرب على العراق، لكن زيارة جورج بوش المقررة في الخامس من حزيران، للمشاركة في احياء ذكرى الانزال الاميركي لدعم تحرير فرنسا، هو نوع من الالتفاف على هذه السياسة عبر، التذكير بالمنة الاميركية، ربما كوسيلة ضغط، وربما تمهيدا لتحول في تلك السياسة خاصة ازاء الوضع العراقي، حيث تلتقي الان حاجة واشنطن الى فرنسا في مجلس الامن، وللخروج من المازق العراقي بحاجة باريس الى المشاركة في الكعكة العراقية.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون