انها الحرب ضد تغيير الموازين، ضد المعادلة البسيطة: كن صديقا او عدوا ولكن لا تكن ندا. هذا ما عناه صراخ الجنود الاسرائيليين بعبارة: ” وان مينيت “، دقيقة واحدة، وهم يهاجمون المتضامنين الاتراك على سطح مرمرة.
يعرف الاسرائيليون ان مرمرمة كانت تحركا سلميا، ويعرفون ان تركيا لن تشن في اي يوم من الايام، وتحت اي ظرف حربا على كيانهم. بل ان اردوغان نفسه، وفي ذروة غضبه، لم ينكر ان تركيا صديقة لاسرائيل، ولم يقل ابدا انها تحولت الى عدو.
الصهاينة ستراتيجيون، ولو لم يكونوا كذلك لما نجحوا في انشاء دولة وفرض انفسهم على العالم، لكن الغطرسة والتجبر قد تحول الستراتيجية الى تهور.
الرؤية الستراتيجية تقول ان اسرائيل لا يجوز ان تقبل بان يكون لها اي مواز في االمنطقة، فالدولة العبرية تحتاج الى ما يسمى في علم السياسة ب ” الكتلة المقابلة ” ولكنها تحتاج ايضا لان تكون هذه الكتلة المقابلة وهمية وبالونا قابلا للنفخ بقدر الحاجة، دون ان يشكل نفخه خطر اي تحول حقيقي. والكتل المقابلة سهلة: هناك اللاسامية، وهناك الهولوكوست، وهناك الاثنتا وعشرين دولة التي تريد القضاء على دولة وحيدة صغيرة لانها واحة للديمقراطية، وهناك الارهاب.. بالونات تعرف اللوبيهات الصهيونية واسرائيل كيف تنفخها وتحركها وتوظفها لكنها تعرف في حقيقة الامر انها ليست حقيقية.
اما نمو اية قوة عربية مقابلة، فخطر حقيقي لا بد من تجييش العالم كله لاجتثاثه، وهذا ما حصل مع عبد الناصر عسكريا ومع مصر بعده سلميا، مع صدام حسين ومع العراق…. لكن هذه السياسة فشلت في لبنان، واي فشل. وفشلت مع سوريا.
فشل لم يكن ليحدث لولا فعالية المقاومة العراقية في وجه الاحتلال الاميركي، وهذا ما لا يجب نسيانه باي حال من الاحوال.
غير ان ذلك لا يعني ان العرب هم حاليا في وارد التحول الى كتلة مقابلة قوية، خاصة مع ظروف الاقتتال الداخلي في اكثر من قطر، والتهالك المذل في غيرها، والانقسام الفلسطيني.
لذلك نزل الايرانيون الى الساحة لملء الفراغ، ومن بعدهم جاء الاتراك.
المشكلة ليست بالنسبة لاسرائيل في المشاركة مع هاتين القوتين الاقليميتين، بل في انها لا تريد مشاركتهما الا على اساس الفوقية التي تمارسها على العرب بعد العراق. واذا ما كان اقتسام النفوذ في الاقليم واردا بين ثلاثة قوى صاعدة هي اسرائيل وايران وتركيا، فان الاولى تريد الا يكون هذا الاقتسام الا في معادلة قوي ازاء ضعيفين او على الاقل ازاء الاقل قوة،والخاضع ازاء المتجبر، ومن ثم في معادلة انحياز الطرفين الاخرين الى مواقف اسرائيل من فلسطين ومن العرب.
وهنا كسرت كل من ايران وتركيا المعادلة المقبولة، فايران تصعد بنفس معاد تماما للكيان العبري، وتغذي القوة العربية الوحيدة التي هزمته، كما تغذي مشاريع المقاومة ضده، كما انها تصعد عن طريق بناء قوة نووية تنتزع من اسرائيل فوقية القوة النووية الوحيدة في المنطقة. اما تركيا، صديقة الامس، وشريكة معاهدة التعاون الستراتيجي، فانها هي الاخرى تخرج عن الطوق وتريد لنفسها ان تصبح قوة اقليمية تتحالف مع ايران ومع العرب، وتدخل الى معادلة التوازن الدولية عن طريق باب اخر غير باب النظام العالمي الجديد وزعيمته الاميركية.
واذا كان الاتفاق الذي عقد في طهران بين لولا ونجاد واردوغان، قد تكشف عن موافقة اميركية صريحة ومكتوبة، كما كشفت المعلومات مؤخرا، فان واشنطن عادت وتملصت منه ربما تحت تاثير ضغوط اللوبيهات، وربما لانها لم ترد ان تترك البرازيل وتركيا تسجلان تاريخا قد يكون بداية نهاية الامبراطوية.
اما التحدي الاخر الممنوع، فهو ذلك الذي مارسه اردوغان ضد بيريز في دافوس، وهذا ما لاتغتفره اسرائيل، لان التكافوء ممنوع، والندية ممنوعة، والتطاول ممنوع من قبل اي طرف في المنطقة، والكبرياء ممنوعة لانها قد تحيي الموتى وتحرك الشعوب، وقد تصبح معدية.
في التسعينات قال ايهودا باراك لاحدى الصحف الاوروبية التي سالته عما اذا كانت اسرائيل تريد ان تفرض حلا منفردا على القضية الفلسطينية، قائلا: نحن القوة الوحيدة في المنطقة، وفي اسوا الحالات الاولى، فلماذا لا نفرض ما نريد؟
هذا التفرد المتفوق،وهذا الحظر على الكبرياء، هما ما تطاول عليه اردوغان في دافوس، وهو ما انتقم منه الجنود وهم يركلون الاتراك ويصرخون: وان مينيت.