الغائب المغيب

صحيفة الدستور، 20-03-2004

هذا المساء افتتاح مهرجان الشعر النسائي العربي الفرنسي في معهد العالم العربي في باريس ، لكن من سيستقبلنا عند الباب ، لن يكون سعاد الصباح التي تقام الفعالية تحت رعايتها ، لا ولا كل الحضور الذي يمثله المعرض ومن دعا اليه ، بل ان من سيتقدمهم هو الغياب الكبير الكبير الذي لا يمكن تفسيره بأي منطق

عند الباب ستقف نازك الملائكة ملوحة بتهمة العقوق، وستتخايل لميعة عباس عمارة بكل زينتها واناقتها متحدية كما تحدي قصيدتها، وستقف معهما امرأة غريبة الملامح قادمة من عصر سحيق سحيق ، تنشر صفحة طويلة تحمل نصا بلغتين: العربية ، و …اخرى يعرف انها السومرية كل من وصله هذا الملصق الذي وزع خلال الحصار حاملا اول قصيدة كتبتها امرأة في تاريخ الانسانية ، قصيدة غزل انثوي لشاعرة عراقية، كنت كلما نظرت اليها على جدار مكتبي في عمان اشتعل ثورة على هؤلاء الذين جاؤوا يحثوننا عن حرية المراة وعن تخلف المرأة في بلادنا، ليستعملوا بذلك جاهلاتنا ومتسلقاتنا ابواقا في طليعة حربهم لاستعمارنا، واخشاب جسور في عملية العبور الى الى الغائنا

وكان معهم سرب من الشاعرات الشابات ، لم يكن يغفلهن أي مهرجان عربي قبل ان يصبح العراق »محررا« !!

لكن جمهورا اخر كان وراء هؤلاء المبدعات ، عرفت فيهن المتنبي وابن الرومي . والبحتري وابا تمام ، وعرفت فيهم السياب والجواهري والبياتي وسعدي يوسف ، وعبد الرزاق عبد الواحد ، وحميد سعيد ، وسامي مهدي .. اجل هؤلاء ايضا ، ولم اتنكر لهم لانهم بعثيون، (انا التي لم تكن يوما بعثية) ومن »شعراء النظام«

هؤلاء شعراء وكبار وعراقيون وكفى !!

الم يغن الجواهري لاكثر من نظام ؟ الم يكن المتنبي »شاعر نظام«؟

كانوا كلهم هنا لان المؤامرة ليست قصة مرأة ، لا ولا هي قصة غياب عرضي ، انها قصة تغييب العراق الذي لم يعد يجوز ان يمثل او يذكر كعراق ، طالما ان المستقبل المخطط له هو لتمثيل كردي وتمثيل سني وتمثيل شيعي !

الم يكن سيركب الوفد كذلك فيما لو سئل مجلس الحكم ترشيحات ؟

واذا كان الاقصاء والابراز يتم في الماضي على اساس من هو مع النظام ومن هو ضده، دون أي اعتبار طائفي – ولنتذكر الاسماء – فانه الان يطال الجميع، ليمهد لمرحلة جديدة مرعبة .

هنا تكمن الخطورة ، وهذا ما يتوجب على الحريصين على ان يظل العراق عراقا ان يتنبهوا له ويقاتلوا لاجله .

الم نكن نقول يوما اننا مضطرون -حتى القوميين منا – على ان نركز على الهوية الفلسطينية كي نقاوم عملية انكارها ومحوها لتثبيت البديل الاحلالي الاسرائيلي؟

الم نكن خلال الحرب الاهلية اللبنانية نقاتل لاجل حضور لبناني تعددي على ساحة كل الفعاليات الثقافية العربية كي نقاوم ثقافيا مخطط التقسيم ؟

الرهان الان اخطر واصعب بالنسبة للعراق ، خاصة بعد توقيع الدستور الجديد الذي فهمنا الان لماذا جيء بنوح فيلدمان اليهودي من بروكلن ليصوغه، اذ ان صياغته لاتشكل الا تمهيدا للانفصال الكردي ومن بعده الشيعي والسني، وذاك ما لن يتأخر عن ان يطال ايران والسعودية ، وبعدهما سوريا والاردن والجميع ليتحقق ما فشل عبر لبنان – او ما مهد له في لبنان: دول دينية طائفية تحيط باسرائيل وتبرر وجودها كدولة يهودية، وتتعامل معها على هذا الاساس، مما لاينفذ فقط الى توزيع الثروات والى الغاء حق العودة وتقبل التوطين البديل، وتبادل السكان، بل ينفذ فيما هو اهم من ذلك الى البنية الفكرية القيمية – أي الى الثقافة .

ومن الاخر نبدأ، لان هذا الاخر هو الاول وهو الاساس .

من هذا المستوى ننفذ الى الجانب الاخر من المخطط، وهو ما يتناول الثقافة العربية كلها ، جانب تغييب كل الجوهري والحقيقي في الابداع وتسويق نتاج جديد ، واسماء جديدة تقول ولا تقول ، وتغني بالفيديو كليب لا بحضور فيروز وام كلثوم .

لا اقول ذلك اطلاقا وفي ذهني الشاعرات المشاركات، فاكثر من واحدة منهن ، لها حضور على ساحتها ولها تجربتها، واذا كانت بعض التجارب لا ترقى الى مستوى الاسماء الشعرية الكبرى للشعراء الرجال، فذاك موضوع اخر يعكس ازمة تستحق الدراسة على الساحة العربية، وهي ازمة غياب الاسماء الكبيرة عن خارطة الشعر، منذ نازك وفدوى، في حين لا تغيب الاسماء النسائية الكبرى عن ساحة الرواية او النقد على سبيل المثال .

ازمة لن يساعد في حلها باي شكل من الاشكال الاصرار على عقد الفعاليات الثقافية المخصصة للنساء على شكل حديقة الحيوانات الخاصة او – وبالاعتذار من المعوقين – على شكل رياضات اصحاب الاحتياجات الخاصة ، فهل اكثر من ذلك اعتراف بالدونية والقصور ؟

اجل هناك حاجة لمعالجة اوضاع المرأة في مجتمعاتنا ، ولتفعيل دور المبدعات على هذه الساحات ، ولكن في اطا ر حالة من الوعي المجتمعي الكامل الذي لا يفصل قضية عن اخرى ، ولا يتناول واحدة خارج السياق الوطني العام ، ولا يقع دون ان يدري في مطب تجيير واحدة لضرب الاخرى الاكثر جوهرية ، فعندما يقع السقف لايميز حطامه بين عرق وعرق ولا بين طائفة واخرى ولا بين جنس وجنس .

وها هو العراق ابرز مثال ، العراق الذي لم يكن يوما الا ذلك المخزون الهائل للثقافة العربية ، العراق الذي لم يكن يوما صدام حسين لا ولا هو مجلس الحكم الانتقالي الذي وجد ليؤمن الانتقال من ادلاء لبول بريمر الى متعاونين مع احتلاله باسم حكومة ، شهاد زور، لهم ان يقبضوا جيدا ثمن هذه الشهادة على تفسيخ العراق وبيعه . فهل منا من لم يرهم كذلك وهو يشاهدهم على الشاشات (وكان بينهم نساء) يوقعون على دستور فيلدمان ، القادم من بروكلن ، دون ان يشعر احدهم بعار انتمائه الى حمورابي .

هؤلاء ، هل ينتمون اليه فعلا ؟ بل هل ينتمون على الاقل الى دستور العراق الحديث، دستور ما قبل صدام حسين ؟

هل ينتمون الى امرأة اسمها صبيحة الشيخ داود ، كانت اول حقوقية في العالم العربي؟

لم تكن شاعرة ولكنها تستحق حضور مهرجان الشعر العربي .هي التي غيبت عن مهرجان الدستور العراقي.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون