قراءة متأنية في فريدمان

صحيفة الدستور، 11-02-2004

عندما نقوم بالترجمة في العمل الصحفي، فانما نحاول ان نطل على الراي العام الاخر من خلال اعلامه، بما في ذلك اعلام العدو، او الاعلام المعادي في دول غير عدوة، لكن ذلك يفترض قراءة حذرة ويقظة، خاصة اذا ما اخذنا بعين الاعتبار مهارة هؤلاء الاعلاميين والسياسيين على دس السم في الدسم، هم الذين ينتمون الى ساحات وضعت اسس الحرب النفسية وطبقتها بنجاح منذ الاربيعينات من القرن الماضي

بهذه الروحية وهذه اليقظة ترجمنا نحن في الدستور بيريز ونتنياهو وشارون، وبهم علينا ان نقرا توماس فريدمان، يقظة تتزايد الحاجة اليها مع ارتفاع منسوب قدرة هذا الاخير على ارتداء اقنعة تبدو للوهلة الاولى مقبولة الملامح

في مقاله الاخير المنشور يوم الثلاثاء اول من امس نقلا عن الاتحاد بدا القناع من العنوان » افلاس اخلاقي واستراتيجي « ويفرح القارىء على اعتبار ان الكاتب اليهودي الاميركي يعتبر الحرب على العراق افلاسا اخلاقيا واستراتيجيا .

ندخل الى المقدمة، ولا نستطيع الا وان تراودنا الرغبة في اعادة كتابة النص بدون ادنى تغيير اللهم الا ممارسة لعبة استبدال بعض الاسماء العلم ليصبح وكانه يتحدث عنا نحن:

ولاجل عدم التعدي على الملكية الفكرية، ونحن الملتزمون بها بفعل اتفاقية الغات، تطبق اللعبة بالكتابة باللونين الاسود والابيض، بين ما كتبه فريدمان وما يجب تبديله لينطبق الخطاب علينا ، وبذلك نكون ايضا قد التزمنا بمعادلة الرئيس الاميركي بين الاسود والابيض، الخير والشر( التي نكتشف في النهاية ان فريدمان ملتزم بها ) :

»المباراة النهائية لكرة القدم« و»تلك الهزليات المبتذلة« التي تقدم في الفاصل، والسؤال المنغص (بحسب تعبيره) هو كيف يمكننا أن نقدم لأميركا وللعالم (لنضع للعرب وللعالم) عرضا على هذا القدر من المرح والهزل في الوقت نفسه الذي يوجد لنا كذا ألف جندي(مناضل مقاوم) يخوضون حربا في العراق (لنضف فلسطين)، ويموت منهم واحد(اكثر من واحد بكثير) في المتوسط يو ميا؟

لقد أصبح عبء هذه الحرب برمته واقعا على كاهل كادر صغير من الأميركيين (من العرب) وهم الجنود وعائلاتهم (لنضع مكان الجملة الاخيرة : المقاومين العرب وعائلاتهم)، أما باقي الشعب الأميركي (العربي) فهم يواصلون حياتهم كالمعتاد.. وكأن ما يحدث لهؤلاء لا يعنينا، ولا شأن لنا به.

كانت الرسالة القادمة من البيت الابيض (او من البيوت البيضاء) تقول : عليكم جميعا أيها الأميركيون (ايها العرب) أن تواصلوا حياتكم كالمعتاد، وتستمتعوا بأوقاتكم، وتنفقوا ما توافر لكم من أموال ، ولا بأس من أن تستمتعوا كذلك بالعرض الذي يقام بين شوطي المباراة النهائية في دوري كرة القدم الأميركي (اية كرة قدم او أي سوبر ستار)، أو تشتروا سيارة فخمة.

تنتهي اللعبة هنا وقد اتضح ما الذي قصده فريدمان بالافلاس الاخلاقي،وننتقل الى الافلاس الاستراتيجي، لنجد انه يحدده بداية بالنفي وصولا الى التقرير، لتحديد خطيئة فريق بوش:

»لم تكن خطيئتهم هي المبالغة في تقدير التهديد الذي كان يمثله صدام حسين، ولكنها تمثلت في إرسال هؤلاء الجنود لخلعه من الحكم، دون وجود خطة مناسبة للصباح التالي«.

»إن الخطأ الكبير الذي ارتكبه المحافظون الجدد وارتكبته هذه الإدارة، هو أنهما قد اعتقدا أن أميركا تستطيع أن تخوض تلك الحرب بمفردها لقد تناسيا أنه لم يكن بمقدورنا أن نكسب الحرب الباردة دون دعم من حلفائنا الديمقراطيين في الخارج، ودون تضحيات حقيقية في الوطن. ونحن لن نستطيع كسب هذه الحرب أيضا دون هذين العاملين«.

اذن ثلاثة مفاتيح تلخص المقصود من كل ما جاء في هذا المقال » الاخلاقي جدا جدا !!« : كسب الحرب – التضحيات التي يتوجب ان يقدمها الاميركيون جميعا – والاستعانة بالحلفاء الاوروبيين ومجلس الامن فاذا كان الهدف اولا واخيرا هو المفتاح الاول : كسب الحرب، فان واقع الامور على الارض يجبر الجميع على الاعتراف بما يقوله فريدمان في الفقرة اللاحقة: »ليست لدينا شرعية كافية، ولا قدرة على البقاء ومواصلة ما بدأناه حتى النهاية«.

ولذا فان الحاجة تصبح ملحة الى المفتاحين الاخرين: الحلفاء والتضحيات الداخلية.

»نحن بحاجة إلى تجنيد كافة حلفائنا بما في ذلك فرنسا وألمانيا ومجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، ليشاركوا معنا في هذه المهمة الشاقة التي تحتاج إلى جهد جبار الى اعادة بناء التحالف الذي كسب الحرب الباردة« لكن الحرب الباردة كانت ضد جهة معروفة هي الاتحاد السوفييتي وكتلته، فمقابل من يريد فريدمان ومن وراءه ان يربحوا؟

الجواب ليس بعيدا، لان الكاتب يجعله يطل من اكثر من زاوية : فهو يعبر عن غضبه من»استهلاك نفط تذهب عائداته الى جيوب من يقتلون جنودنا« ويتوقف عند عملية اربيل ليتهم بها الاسلاميين، ويسمي لاحقا الفاشية الدينية، في مقابل قيم الحضارة الغربية، لا لانه مقتنع بكل ذلك بل لان الحرب تحتاج عدوا، وبعد الشيوعية اصبح قدر الاسلام ان يلعب هذا الدور، ولان هذا الخطاب ما يزال يحدث تاثيرا في الكثير من النفوس لدى الحلفاء الغربيين، الذين كانوا بالامس »ابناء العجوز« .

واذا كان اقناع هؤلاء الحلفاء يعتمد على معادلات تقاسم المصالح، فان اقناع الداخل وتحضيره لتقديم تضحيات صعبة يحتاج اول ما يحتاج الى تلبس موقف اخلاقي انساني وطني، لا يمس اطلاقا فكرة الحرب بحد ذاتها، بل ان الكاتب يركز على ادراج تبريرها في سياق المفاهيم ذاتها التي ركزها خطاب بوش وفريقه، فيقول في نهاية مقاله :

»ان الحرب التي نخوضها هناك هي »حرب عادلة« إنها حرب قوى التسامح والتعددية والتحضر ضد قوى عدم التسامح، والتعصب والفاشية الدينية. (…!) »إن موقف اليسار المناوئ للحرب هو موقف خاطئ، فمهما كان الطريق الذي سلكه بوش لخوض تلك الحرب خاطئا، فإن تلك الحرب هي حرب من أجل قيم حضارتنا«.

اذن لا شيء متغير بالنسبة للحرب واهدافها، وما الهدف من التغيير المطلوب الا ضمان استمرارها، (ليصبح تفطر القلب على الجنود الاميركيين دعوة الى تعريض الشعب الاميركي برمته للمعاناة والتضحيات) استمرارها حتى تحقيق اهدافها ولا باس ان يكون ثمن ذلك جعل فريق بوش كبش فداء فقد ادى ما كان عليه ان يؤديه، واذا كان قد فشل في مرحلة لاحقة فلا باس ان تمسح به كل قاذورات المستنقع، لياتي بمن يكمل المهمة بعده، »حتى النهاية« بحسب تعبير فريدمان، ولكن ما هي النهاية؟

اية نهاية ؟ من الذي رسم ملامحها واهدافها؟

انه بالطبع ليس جورج بوش، بل استراتيجيوه من اليهود الذين يعرف فريدمان ماذا يريدون ويعرف / هو وجيش من الاعلاميين المتصهينين كيف يخدمون ارادتهم وخطتهم.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون