للشارع رائحة الناس.
ولكل من ازمنته وساعاته، صوتها، نداؤها؟ ام رسالتها؟
الصباح يعبق برائحة القهوة وحب الهال، ويعبق بهموم تتمطى عند حافة السرير، قبل ان تتدافع الى طرقات السعي.
للظهيرة تعب العائدين الى لقمة، هي التعب، وهي استراحة الحرب الازلية مع شبحي الجوع والموت.
اما الليل فاسوأ امرأة لعوب، تغري كل واحد بانها له وحده.. هو يعرف كيف يكون لنا ولا يكون، ونحن لا نعرف كيف نهرب اليه من كل شيء، نحيك فيه اخطر المؤامرات والجرائم كما احلى قصص الحب، نمارس فيه الموت المؤقت المؤهل لاستئناف الحياة، كما الحياة الصاخبة او الهادئة التي لا تريد التفكير بالموت.. او تريد التحايل عليه.
وبدون ان ندري تمتد يده الخفية الى عمق اعماق نفاجأ انها بداخلنا وتخرج وقد انتزعت اقفال صمامات عجيبة من ابداعات او احباطات او عواطف او احزان.
قلة منا من يهربون منها الى الشارع وكثرة من يحتضنونها ويغمضون او يرسلون العيون.
لكن.. يظل للشارع قدر السيل، يهدر بالحياة، ويجرف الحياة، ويديم الحياة، وانت في وسطه ذرة قد يكون قدرها الماء الجاري، وقد يكون نقطة من رذاذ تستقر داخل وريقة او على حبة تراب او على ريشة في جناح، او.. على شيء من قمامة.
من هنا يبدأ الرهان…
فكما الشارع، في كل منا رائحة الناس، كل الناس، لكن لنا ان نختار اية نقطة في السيل نكون.
سؤال لا حسم فيما اذا كان من الافضل ان تطرحه وحيدا متأملا، او ان تفعل وانت تنخرط في الزحمة، لكن الحسم قائم في ان لا معنى لخيارك الا اذا صب في مجرى السيل، فأي معنى لكل خياراتنا، لكل سعينا، ولكل انجازنا ان لم تنبع من الكل، ولم تتجه الى الكل.
فأي بهاء لذيلك الطاووسي ان لم تتألق الوانه في عيون الكل.
لكن.. حذار ان تفرح به كثيرا، فهو يثقل حركتك ويجعلك اعجز الطيور عن التحليق.
وأي بريق لاسنانك المرصوفة الناصعة، ان لم تنفرج عنها الشفتان، لتقيم فضاء من البهجة، وردية او بيضاء، يلفك مع الاخرين.
للشارع رائحة الناس
ولنا كلنا حضور الناس
لكن.. لماذا يتناسل شارعنا زواحف ودجاجا وطواويس ويجهض العصافير والنسور والخيول؟
لماذا يظل يتيم فضاء البهجة واميّ انفراج الشفاه عن الاسنان؟
اثمة ارتباط لا نعيه بين السؤالين؟
وهل ان الذين لا يتقنون الفرح هم انفسهم اولئك الذين لا يتقنون الحرية والكبرياء، لا يتقنون الوضوح؟
وان اصحاب القهقهات التي لا تنشر فرحا هم انفسهم اصحاب الخطوط المقطبة للجبين والوجوه المنكمشة، لكأن الاولى انتقام فاشل من الثانية.. كما التحلل انتقام من العجز عن الحرية، والتكبر انتقام من العجز عن الكبرياء، وتلبس انا اخر انتقام من العجز عن ان تكون انت انت.
اذ يبدأ بلوغ الهدأة والسلام المشعين بالفرح من المصالحة.. المصالحة مع الذات.. اي مع الانسان الكائن في الداخل.
»ايها الجنس الالهي المتنكر بشرا، اعرف نفسك«
قالها فيسين يوما، فانطلق عصر النهضة الاوروبي.
ايها الانسان، الكائن فيّ، دعني اعرفك واحترمك، لاعرف البهجة.