ثمة احداث تاريخية تتعدى بعدها المحلي، لتصبح، ومع مرور عجلة التاريخ محطات انسانية عامة، خاصة عندما تشكل مفاصل بناء كوني او دمار كوني، مفاصل لا مناص لها من الارتباط بعملية تدمير سلم قيم او ارساء آخر.
ولعل واحدة من اهم الاحداث التي تستحق هذا الوصف تتمثل في ثورة 14 تموز الفرنسية، بحيث لا يمكن لمخيلة انسان يستجيب لتوق الحرية في داخله الا وان تلتهب لصورة جماهير باريس الزاحفة الى الباستيل، ولا يمكن لمثقف يفهم الثقافة فعل تغيير الا وان يشعر بشيء من الانتماء – ايا يكن انتماؤه الوطني والقومي – الى فولتير وجان جاك روسو وديدرو، بل ومونتسكيو الذي تجاوزهم جميعا في رفضه لنظرية الاستبداد المستنير، والتقى معهم في تبني توازن وفصل السلطات.
واذا كانت الامانة التاريخية تقتضي الاعتراف بفضل واسبقية التحولات في بريطانيا، سياسيا وفكريا، والتي وجدت ناطقا رسميا باسمها في شخص جون لوك، فانه لا بد من الاعتراف بان ما اعطى ثورة 14 تموز خصوصيتها العالمية والتاريخية هو امتداد تأثيراتها جغرافيا وتاريخيا فيما تجاوز مرحلتها وبلادها، تأثيرات تجلت اساسا في منظومة القيم المجسدة بثلاثية الحرية والعدالة والمساواة وبما ترجمها من شرع حقوق المواطن وحقوق الانسان.
هذا ما يفسر الاقبال السنوي، وفي كل عواصم العالم، على مشاركة الفرنسيين احتفالاتهم بالذكرى، اذ ثمة شراكة خفية تدفع الكثيرين الى احياء حصتهم، تاريخا او توقا، في العيد.
لكن ثمة ملاحظة خاصة تجلت في احتفال السفارة الفرنسية في عمان هذا العام، حيث شهد كثافة في الحضور لم نعرفها في اي عام مضى، (وانا مواظبة على هذه المناسبة منذ ربع قرن)، والسؤال: لماذا؟
أهي مسألة القيم والمفاهيم؟
هل اصبحنا اكثر حماسا لها واكثر حرصا على احيائها، نحن العرب، بعد ان فقدنا الحرية الوطنية؟
ام ان ثمة معادلة سياسية اخرى، تمثلت في رسالة عفوية وجهها المشاركون الى العالم؟
العالم الذي ينقسم اليوم بين الامبراطورية المستبدة وحلفائها من جهة، وبين ضحاياها ومن يحاول الحفاظ على توازن ما في الدفاع عنهم، بين ولايات متحدة متفردة في الهيمنة على العالم وظالمة في فرض مصالحها واراداتها على كل شعوبه واممه، وبين شعوب العالم الثالث وبعض القوى – العظمى سابقا – والتي تحاول زعزعة هذا التفرد والعودة بالعالم الى توازن تعدد الاقطاب الذي يعطي للضعفاء فرصة المناورة والخيارات.
واذا كانت اوروبا هي المرشحة للعب دور الوزن المقابل في الكفة الاخرى من الميزان، فان في داخلها ايضا صراعا حادا ومعلنا، بين اوروبا تدرك ان ليابستها ضفتين، واحدة على الاطلسي وواحدة على المتوسط، وان مجالها الحيوي الذي لا تستطيع بدونه التوازن مع القوة القائمة على الضفة الاخرى للاطلسي، هو المدى المتوسطي، العربي في جزئه الاكبر، وبين اوروبا اخرى مصرة على التبعية الكاملة للولايات المتحدة، وعدم الالتفات الى العرب الا للتحقير كما فعل برلسكوني او للاعتداء والاحتلال كما فعل طوني بلير.
واذا كان بلدا هذين الاخيرين يقودان اوروبا المعادية، فان قيادة الاولى تتجسد في المانيا وفرنسا، لتدور مواجهة لم تعد خافية على احد، ولا تشكل الازمة الايطالية الاخيرة الا تجليا من تجلياتها.
غير ان دور فرنسا في هذه المعادلة يظل اساسيا لسببين: تاريخي وواقعي، فتاريخيا كان الجنرال ديغول عرّاب ورائد هذا الخط المؤمن بالاستقلالية والتوازن والبعد المتوسطي، وتبعه معظم خلفائه، وواقعيا تأرجحت فرنسا منذ بداية الجمهورية الخامسة وحتى الان بين مواقف هي الاكثر ايذاء للعرب من مثل دعم انشاء المفاعل النووي الاسرائيلي، ومواقف هي الاكثر انتصارا لهم، او على الاقل محافظة على التوازن بينهم وبين اعدائهم، الى ان كانت المواقف الاخيرة، منذ بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ومنذ اشتداد الازمة العراقية، هي الاكثر تأثيرا في الوجدان العربي الشعبي.
واذا كانت الحملة الشرسة التي تشنها وسائل الاعلام الاميركية والمتأمركة على فرنسا وعلى رئيسها شخصيا، تتويجا للحملة التي شنتها قبلا الاوساط الاسرائيلية والصهيونية، رغم ان جاك شيراك قد اعطى اليهود ما لم يعطهم اياه اي رئيس فرنسي سبقه، عندما اعترف بمسؤولية فرنسا الدولة عن تصرفات حكومة فيشي ازاءهم.
فان نتيجة التصنيف الذي تفرزه الحملتان، هو تقريب فرنسا من وجدان الشارع العربي، الذي يبدي استعداده لنسيان جريمة سايكس – بيكو، ومعاناة الجزائر ليس لاننا شعب فاقد للذاكرة، ولا لان نتائج سايكس بيكو ما تزال تصيبنا بهشاشة العظام وفقر الدم، بل لانه واقع لعبة السياسة، وواقع تواتر الكوارث الذي يجعلنا نمد اليد الى من تلتقي معه الان مصالحنا وحاجتنا الى الابقاء على وجودنا ومستقبلنا، كما حاجته هو الينا في صنع مستقبل بلاده واوروبا.
واذا كانت تلك فرصتنا في ايجاد حليف، غير المحتل الذي يسمي نفسه محررا فانها فرصة السياسة والدبلوماسية الفرنسية في استعادة مواقع خسرتها على ارضنا.
استعادة تتحقق بنجاح دل عليه حجم الجمهور الذي ربما اراد ان يقول لا لواشنطن بقدر ما اراد ان يقول نعم لباريس.