حادثة سير من النوع الذي نادرا ما يقع في اوروبا، اصطدام باص بين فرنسا وبلجيكا، وعدد من القتلى يتجاوز العشرة ، وعدد اخر من الناجين.
محطات التلفزة مشغولة بالامر على امتداد الساعات ، وهؤلاء الناجون يحتلون الشاشة واحدا تلو الاخر ، يروون هول الحادث : هول ان ترى شخصا يموت امامك ، والحكومة تعلن انها ستخصص لكل من هؤلاء علاجا نفسيا الى ان يتعافى تماما من آثار الصدمة . وهل من السهل ان تشهد الموت؟
يقول الاعلام والاخصاصيون النفسيون الذين يستضيفهم . حسك الانساني، يفترض ان يقودك الى التعاطف، الى هذا المشترك الابدي امام هول الموت ، لكنك من ناس لا يملكون ذلك ، لانهم لا يملكون، وهم الذين غلب منسوب الموت على الحياة لديهم منذ اجيال، الاّ وان يسخروا ضمنا من هذه الماسي »المنفوشة« ( وكلمة المنفوشة هنا معادل موضوعي لفعل فرنسي يعني : اثار الرغوة ، محولا الجسم الصغير الى حجم كبير .)
هل يعني ذلك ان هذا التآمر التاريخي على انسانيتنا قد اتى اكله ، واننا تحولنا الى بشر فاقدي الاحساس ، حتى بالموت ؟
تآمر تضافرت فيه جهود الغرب الاستعماري ، بشكليه القديم والجديد ، وجهود صهيونية لا ندري لماذا لم ينصب مخزونها التاريخي والعقدي من الحقد والكبت والتعالي الا على رؤوسنا ، وجهود انظمة زرعها كل من الجاهدين السابقين فوق رقابنا ، وجهود جهل وخنوع تمكنا من شل اطرافنا وعقولنا ، – تضافرت كلها على فرض زواج قسري بيننا وبين الموت ، زواج ربما بدا للوهلة الاولى انه سلبنا انسانيتنا وقدرتنا على التعاطف مع موت الاخرين ، لكن الحقيقة ان الجسد الذي يبلغ به الشلل حدا يمنعه من الاحساس بالم يصيب احد اعضائه ، هو جسد عاجز عن الاحساس بالم يصيب جسدا اخر .
فكم هو عدد العرب الذين لم يشهدوا موت شخص امامهم ؟ واذا كان هناك من افلت من المشهد ، افلا تقوم شاشات التلفزيونات العربية بالواجب ، اذ تقوم بما يسمى في علم الاعلام المعاصر ب: »بتحويل اللامعتاد الى عاد، واللامألوف الى مألوف« بحيث تختفي الفجاءة ، وبالتالي ، الدهشة ، وبالتالي الرفض والاستنكار ، وتدريجيا تموت ردة الفعل .
واذا كانت الحالة الاولى : اي حالة الصدمة والفجاءة تجعل المرء بحاجة الى العلاج النفسي كي يعود انسانا طبيعيا ، فان الحالة الثانية تشكل حالة مرضية مزمنة ومعقدة تحتاج اكثر واكثر الى العلاج . فمن الذي سيدخل شعوبنا عيادات الطب النفسي؟
من الذي سيحمل الى الفلسطينيين اطباء بعدد نفوسهم ، بمن فيهم الاجنة الذين لم يغادروا رحم امهاتهم بعد ؟
من الذي سيفتتح في العراق عيادات قادرة على الغوص الى حيث حفر الموت منذ سنين ، من سيبتكر في لبنان علاجا بعمق عشرين سنة من الحرب ؟ في السودان ، في الجزائر ، في …وفي سواها من ساحات الموت غير المعلن ، غير المفضوح …؟
اهو الغرب الذي فقد المآسي ، وافتقدها ، يحاول ان يخلق لنفسه مأساته بنفش اية حادثة ولو صغيرة ؟
ام هم نحن الذين الفنا المآسي حتى تبلدت مشاعرنا واحساسنا بحقنا في الحياة ؟
ام هو الايمان الفطري بهذا الحق في الحياة ، يجعل المقاومين ، المقاومين فقط يقرؤون دون ان يدروا مقولة الجيش الجمهوري الايرلندي : هل هناك حياة قبل الموت ؟