مرض الموت المزمن!…

صحيفة الدستور، 24-12-2003

حادثة سير من النوع الذي نادرا ما يقع في اوروبا، اصطدام باص بين فرنسا وبلجيكا، وعدد من القتلى يتجاوز العشرة ، وعدد اخر من الناجين.

محطات التلفزة مشغولة بالامر على امتداد الساعات ، وهؤلاء الناجون يحتلون الشاشة واحدا تلو الاخر ، يروون هول الحادث : هول ان ترى شخصا يموت امامك ، والحكومة تعلن انها ستخصص لكل من هؤلاء علاجا نفسيا الى ان يتعافى تماما من آثار الصدمة . وهل من السهل ان تشهد الموت؟

يقول الاعلام والاخصاصيون النفسيون الذين يستضيفهم . حسك الانساني، يفترض ان يقودك الى التعاطف، الى هذا المشترك الابدي امام هول الموت ، لكنك من ناس لا يملكون ذلك ، لانهم لا يملكون، وهم الذين غلب منسوب الموت على الحياة لديهم منذ اجيال، الاّ وان يسخروا ضمنا من هذه الماسي »المنفوشة« ( وكلمة المنفوشة هنا معادل موضوعي لفعل فرنسي يعني : اثار الرغوة ، محولا الجسم الصغير الى حجم كبير .)

هل يعني ذلك ان هذا التآمر التاريخي على انسانيتنا قد اتى اكله ، واننا تحولنا الى بشر فاقدي الاحساس ، حتى بالموت ؟

تآمر تضافرت فيه جهود الغرب الاستعماري ، بشكليه القديم والجديد ، وجهود صهيونية لا ندري لماذا لم ينصب مخزونها التاريخي والعقدي من الحقد والكبت والتعالي الا على رؤوسنا ، وجهود انظمة زرعها كل من الجاهدين السابقين فوق رقابنا ، وجهود جهل وخنوع تمكنا من شل اطرافنا وعقولنا ، – تضافرت كلها على فرض زواج قسري بيننا وبين الموت ، زواج ربما بدا للوهلة الاولى انه سلبنا انسانيتنا وقدرتنا على التعاطف مع موت الاخرين ، لكن الحقيقة ان الجسد الذي يبلغ به الشلل حدا يمنعه من الاحساس بالم يصيب احد اعضائه ، هو جسد عاجز عن الاحساس بالم يصيب جسدا اخر .

فكم هو عدد العرب الذين لم يشهدوا موت شخص امامهم ؟ واذا كان هناك من افلت من المشهد ، افلا تقوم شاشات التلفزيونات العربية بالواجب ، اذ تقوم بما يسمى في علم الاعلام المعاصر ب: »بتحويل اللامعتاد الى عاد، واللامألوف الى مألوف« بحيث تختفي الفجاءة ، وبالتالي ، الدهشة ، وبالتالي الرفض والاستنكار ، وتدريجيا تموت ردة الفعل .

واذا كانت الحالة الاولى : اي حالة الصدمة والفجاءة تجعل المرء بحاجة الى العلاج النفسي كي يعود انسانا طبيعيا ، فان الحالة الثانية تشكل حالة مرضية مزمنة ومعقدة تحتاج اكثر واكثر الى العلاج . فمن الذي سيدخل شعوبنا عيادات الطب النفسي؟

من الذي سيحمل الى الفلسطينيين اطباء بعدد نفوسهم ، بمن فيهم الاجنة الذين لم يغادروا رحم امهاتهم بعد ؟

من الذي سيفتتح في العراق عيادات قادرة على الغوص الى حيث حفر الموت منذ سنين ، من سيبتكر في لبنان علاجا بعمق عشرين سنة من الحرب ؟ في السودان ، في الجزائر ، في …وفي سواها من ساحات الموت غير المعلن ، غير المفضوح …؟

اهو الغرب الذي فقد المآسي ، وافتقدها ، يحاول ان يخلق لنفسه مأساته بنفش اية حادثة ولو صغيرة ؟

ام هم نحن الذين الفنا المآسي حتى تبلدت مشاعرنا واحساسنا بحقنا في الحياة ؟

ام هو الايمان الفطري بهذا الحق في الحياة ، يجعل المقاومين ، المقاومين فقط يقرؤون دون ان يدروا مقولة الجيش الجمهوري الايرلندي : هل هناك حياة قبل الموت ؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون