غير الهنود الحمر

صحيفة الدستور، 25-11-2003

على القناة الخامسة الفرنسية كانت عينا طفل عراقي ترسل اشعة تحد نادر، تحد من ذلك النوع الذي لا يعرفه الا من عرف العراقيين العراقيين…

تقرير ميداني اعدته القناة عن بداية العام الدراسي في بغداد، الاب يتحدث بالم عن غياب مستلزمات الدراسة، من الكتب الى المناهج ومن القرطاسية الى وسيلة النقل والحياة العادية… المدّرسة تشكو من مشكلة استبدال المناهج التي تتوقف على فرض تمزيق صور صدام حسين من الكتب ومحو اسمه واسم حزب البعث حيث وجد، واذ يسالها الصحفي الفرنسي : هل يفرض عليكم الاميركيون ذلك تجيب بتحد هادىء: اذا فعلنا ذلك فرضا فسنحتفظ بها في قلوبنا، المراسل يتوجه الى طفل، وبعينين تموجان باشياء كثيرة وغريبة، اكبر من ان توصف، يواجهه الصغير: نظرة الى غريب، ونظرة فيها مزيج خاص من خوف وتحد وعناد…تحد اكبر من أي شيء اخر، يفتح الصغير الكتاب على صورة صدام حسين، يساله المراسل: هل ستنزعها؟ ترتفع العينان، يرتفع منسوب التحدي الصامت و…كلمة واحدة : لا.

اهي نعم لصدام حسين، ام انها مجرد لا للاحتلال؟؟

اكثر من دلالة بالغة العمق،واكثر من نتيجة مقلوبة لما ارادته السياسة الاميركية الخرقاء: اولها ان الرجل الذي كان مرتبطا في سر غالبية العراقيين بفكرة القمع والخوف سيتحول مع الوقت وشيئا فشيئا الى صورة المقاوم البطل الشعبي الذي يجسد فكرة المقاومة للمحتل، القائد الذي ضربته الكراهية يوما لدى الكثيرين لتعدي نظامه على الكرامة، سيتحول ايضا الى تجسيد للكرامة الوطنية في وجه ذل الاحتلال وغطرسة المحتل، وسيساعد في ذلك دون شك عاملان: الاول هو سوء الجماعة الحاكمة التي جاء بها الاحتلال والتي تحمل كل السيئات التي كانت مكروهة في نظام صدام حسين دون ان تحمل ايا من الايجابيات التي لم يعد للمواطن العراقي ان ينكرها الان وهو يعيش ما يعيش. والثاني هو ان سقوط الرجل وانفضاض مسؤولي عهده عنه اما استسلاما واما خيانة، واستشهاد ولديه، قد جاء ليغسل الكثير من الكراهية او الغيظ ازاء شخصه، خاصة وان الصاق الاعلام المتامرك المقاومة بالبعثيين وحدهم، جاء ليعيد الاعتبار الى حزب قدم للبلاد مشروعا يقوم على التطور والتقدم والكرامة القومية (حتى ولو اختلفنا مع الكثير من طروحاته)، والى عهد عرفت فيه البلاد مرحلة نهضة حقيقية في كل المجالات العلمية والثقافية والحياتية، ومرحلة رخاء وامن لا يمكن انكارها.

افهل ينسى احد كيف كان هذا البلد الذي يعاني الان من وجود الكتاب وادوات الدراسة يوزع الكتب علينا جميعا؟ هل نسي احد ان العراق حصل منذ عام 1986 على جائزة اليونسكو لمحو الامية؟ هل ينسى احد قوافل العلماء والادباء والفنانين واللغويين والفلاسفة؟ انه العراق منذ مكتبة اشور بانيبال الى مكتبة بغداد التي كانت اول ما احرقه الاحتلال.كل هذا لم تدخله السياسة الاميركية في حسابها، بل انها ادخلته فكان مصدر الحقد ودافعا للاسراع في التدمير.

دون ان تاخذ في حسابها عامل الزمن الذي يذيب الاحقاد بل ويحولها باتجاه مصدر الكبت الجديد، وعامل التعاطف مع المضطهد (بفتح الهاء) ضد المضطهد (بكسرها) واخير العامل الاهم وهو رفض الاحتلال راس سلم الاولويات لدى أي شعب، فكيف اذا كان هذا الشعب هو شعب يرقى منسوب الصلابة والكرامة الوطنية عنده الى ما لدى العراقيين. ويرقى منسوب التمسك بالخصوصية عنده الى ما يرقى اليه عندهم ؟

اما هؤلاء الذين يصرون على ان يقولوا للعالم انهم جاؤوا العراق محررين، فقد تركوا اقنعتهم على شاشات تلفزيوناتهم وواجهوا العراقيين بوجههم الحقيقي، فكانت المكاشفة: مواجهة النار بالنار، القصة الازلية بين محتل ومتعاون ومقاوم.. قصة لم تخف تفاصيلها على اخر طفل عراقي من اولئك الذين قيل انهم سيحملون الورود فاذا بهم يحملون نظرات من تلك التي رايت على شاشة التلفزيون الفرنسي، نظرة لا تحمل فقط كراهية منذورة لاجيال قادمة، وانما تقول ببلاغة: لست انا من احفاد الهنود الحمر بل من سلالة تمتد من نبوخذ نصر الى المنصور الى صلاح الدين!!

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون