وانا ابحث في ارشيف اعلام مرحلة احتلال العراق، وقعت يدي على افتتاحية لمجلة وول ستريت جورنال الاميركية، توقفت عنده طويلا،اولا لانه يتعلق بموضوع خطير وربما لم ننتبه له كفاية في تلك المرحلة، لاننا كنا، كما يقول المثل الشعبي، مضروبين على راسنا، الا وهو مسالة التغيير في قناة الجزيرة. وثانيا لانني رحت اتبين تكتيك بناء مقال صحفي ليحدث تاثيرا ما او على الاصح ليساهم في احداث تاثير ما، وثالثا لانه يتناولنا نحن الاعلاميين الاردنيين بحصة لا باس بها.
ان تحليل الخطاب في افتتاحية وول ستريت جورنال المذكورة يبرز بوضوح اسلوب الضغط السياسي والسيكولوجي الذي يمارسه الاميركيون على قطر وعلى المحطة : بدءا من العنوان :
” العار للجزيرة ” والذي لا ينسجم مع حجم الاتهام الموجه داخل المقال لكنه معنى يتكرر عدة مرات خلاله : ” شبكة بث صدام حسين “، ” كانت تبدو واعدة “، ” لا بد ان الامير نادم الان على غيابه عن مراقبة محطته “، ” مثيرة للاسف “، ” تحوير الاعلام وشراء الاعلاميين “، ” صدام حاول افساد موظفي الجزيرة”، ” تشويه وسائل الاعلام العربية الاخرى ” .
المقال الذي يكتب بمناسبة اقالة مدير الجزيرة محمد جاسم العلي، او اكتشاف عملاء للعراق – كما يقول في المقدمة، لا يخصص للعلي الا فقرتين قصيرتين فقط، ويركز على الجزيرة كجزيرة، مما يفسر بان اقالة العلي قد تحققت وانتهى الامر اما ما هو مطلوب فهو تغيير خطاب الجزيرة نفسها. في حين يخصص اكبر فقراته ( ضعفي ما كتبه عن العلي ) للحديث عن شراء صدام حسين للاعلاميين الاردنيين، وذلك كله نقلا عن سلامة نعمات، دون ان يذكر ان هذا الاخير هو مراسل الحياة والشرق الاوسط السعوديتين منذ سنوات طويلة واكثر الصحفيين تطرفا في الموضوع العراقي. وعن رئيس تحرير مصري لا يذكر اسمه، وعن مقال لصحفي اميركي يدعى ستيفن هايز في ويكلي ستاندرد. فيما يدل على ان محاولة الضغط لا تستهدف الجزيرة وحدها بل كل اعلام يخشى من موقفه من الحرب.
واذا كان هذا التحليل، كتحليل باحث، لا يهدف الى تبرئة احد او اتهام احد او حتى القول بان العراقيين لم يكونوا – ككل الانظمة في المنطقة- خاصة الميسورة منها- يشترون من هو قابل للشراء، فان المقصود منه التدليل على الغاية من الضغط على الجزيرة.
تدليل يوضحه ترتيب فقرات المقال( 14) اذ تشكل تناوبا من ضغط ومطلب، تناوب يبدو هدفه واضحا منذ الفقرة الثانية، بعد ان بدت الاولى مجرد اخبار موضوعي : هذا الهدف هو دفع امير قطر نفسه الى تغيير اتجاه محطته : ” كانت الجزيرة تبدو واعدة… الامير الذي اراد الالتزام بوعده بعدم التدخل بشؤون محطته، ربما يكون الان قد ندم على اهماله لضبطها “. وهذا المطلب الوارد في البداية يتكرر في وسط المقال وفي نهايته ( على ايقاع مضبوط ) ففي بداية الفقرة التاسعة، وبعد ايراد نفي مسؤولي الجزيرة لعلمهم بوجود اي عميل يقول : ” ربما ولكن على الجزيرة تقع المهة الثقيلة المتمثلة بتنظيم عملياتها ” ليعود فيختتم مقاله ب : ” ما يزال امام الجزيرة طريق طويل كي تصبح تقاريرها متمتعة بالاحترام والثقة اللذين يقول مؤيدوها في العالم العربي انها تتمتع بهما ” اذن هي تحميل لمسؤولية ودعوة لتغيير النهج.
وفي سبيل ذلك يبنى الخطاب سيكولوجيا : فبعد توجيه الاتهام ب ” وجود عملاء لصدام حسين في الجزيرة” يروح في تحليل ومقارنة ( مع الاعلام الاردني !!) واستنتاج، ليثبت اتهامه، اذ لا تتوفر لديه اية دلائل. من ثم يركز الانتقاد على شخص محمد جاسم العلي، رغم الاعتراف بان لا دليل لا على وجود عملاء ولا على تورط العلي نفسه باكثر من اتصالات،” ليس هناك اي دليل يشير الى انه كان عميلا او انه كان يتقاضى مالا ” وهو يكرر ان الاتصالات كانت مع المخابرات العراقية في حين ان الاشرطة التي التي ادعي الاميركيون بوجودها لا تشير الى المخابرات وانما الى لقاء مع صدام وعدي، فيما هو طبيعي بين اي مسؤول اعلامي واي رئيس دولة.
غير ان المقال ينتقل، وبحدة اكبروبمساحة اكبر، الى الهجوم على رئيس التحرير ابرهيم هلال ( اقيل هو الاخر بعد فترة )، دون ان تكون لهلال تهمة الا انه انتقد ” مراسلي راديو سوا، وهو الراديو الذي اطلقته وزارة الخارجية الاميركية “، وسمح ب ” بث صور الجنود الاميركيين الاسرى لدى القوات العراقية “. علما بان وسائل الاعلام الاميركية قد بثت صور الاف الجنود العراقيين الاسرى والقتلى.
التهمة الاخيرة التي يوجهها الكاتب لابرهيم هلال للجزيرة، ويحمل هلال مسؤوليتها هي ان المحطة – وخلال مؤتمر عقد في قطر وكان يشارك فيه السيناتور الجمهوري نيك رحال ” ديمقراطي معاد للحرب على العراق” والجمهوري داريل عيسى ” جمهوري…مؤيد للحرب” قد استقبلت الاول في برنامج يبث في ساعة الذروة، والغت استقبال الثاني. تهم ثلاث لا علاقة لها بصدام حسين، هذه المرة وانما بالموقف من الاميركيين وبما هو مطلوب للمرحلة الجديدة.
واذا كانت المرحلة الجديدة قد اتسمت في حينه، بملمحين اساسيين، هما من طبيعة اي حسم لاي صراع : تثبيت الاحتلال والهيمنة الاميركية ليس في العراق وحده وانما في المنطقة كلها : الشرق الاوسط الجديد الذي كانت تعلنه ادارة بوش، وحظر اي خطاب من شانه االتذكير بالخطاب السابق للاحتلال،مع ما يؤدي اليه من دعم للمقاومة العسكرية او السياسية، ومنع ابراز الصورة الاميركية بالشكل الذي يعزز من كراهية الشارع العربي وهذا بدليل حملة تحسين الصورة التي فرضت على الاعلام العربي كله، وبخاصة على الجزيرة عبر عدة برامج منها الاستضافة المتكررة للموفد الاميركي المكلف رسميا بذلك والذي كان يتقن العربية لكنه لا يتقن فهم سيكولوجية الانسان العربي – ولحسن الحظ. كما انه في سبيل اقصاء الخطاب القومي عن الاعلام لا باس من السماح بخطاب اسلامي عابر للحدود، خاصة وان خطابا كهذا تهمته جاهزة : الارهاب، ودواؤه مكافحة الارهاب.