للغرابة جاذبيتها التي قد لا يكون لها مبرر سواها !
هي التي قادتني الى حضور توقيع كتاب عن البدع في فرنسا. في البدء شدني عنوان الكتاب : »الديمقراطية والمافيات«، وبعد ان عرفت ان المضمون يتعلق بموضوع البدع تحمست اكثر، اذ ان ظاهرة البدع الدينية انتشرت في بلاد الثورة الفرنسية انتشارا واسعا منذ سنوات بحيث اطلقت الحكومة حملة واسعة لمطاردة اتباع هذه التجمعات التي تحولت الى الشعوذة واللاعقلانية، بل وبلغت احيانا حد الانتحار الجماعي، مما اعتبر لدى الحكومة خطا احمر يتعلق بالسلامة العامة والامن الاجتماعي وارواح المواطنين.لكن امرا غريبا حصل في حينها، وهو ان الولايات المتحدة تدخلت لدى الحكومة الفرنسية لحماية البدع، حتى ان مادلين اولبرايت جاءت خصيصا الى باريس لاجل ذلك، وربما يكون تذكري لهذا الحدث من اهم ما شدني للذهاب الى هذه المحاضرة – التوقيع، لاكتناه شيء من الاسرار المحيطة بموضوع غامض وملتبس.
الاجتماع يعقد في مقهى ذي طابع خاص، اذ انه لا يشبه مقاهي باريس المطلة على الشوارع حيث تمد ساقيها على الارصفة، وتصر على تثبيت اعمدة تحمل نار تدفئة تسمح للناس بالجلوس خارجا حتى في عز البرد والمطر. غير ان هذا المقهى يقع في طابق علوي يصعد اليه عبر درج ملتو طويل، وهو يحتل قاعة داخلية مسدلة الستائر، و….. الغريب : ذات طابع عربي لا تغيب عنه النرجيلة والشاي بالنعناع. اما الحضور فمتعدد الالوان والاشكال واللهجات والاعراق، ولا يمكن الدخول الا بدعوة، وبعد تسديد قيمة الاشتراك في الاجتماع.
خلال الحوار يتضح ان الجميع يعرف واحدهم الاخر، وان بينهم الفة وتفاهما.
استعراض الكتاب، والمناقشة يكشفان امورا هامة، تقول الى اي مدى نعيش نحن في عالم مافياوي كافكاوي، والى اي مدى نمارس نحن اهل الاعلام الخديعة المزدوجة : اولا نحدع نحن بما يردنا من انباء وثانيا نقوم بدورنا – وغالبا بحسن نية – بخداع الناس اذ ننقلها اليهم.
حملة مطاردة البدع، ترتبط بحسب ما يكشفه الكتاب بمصالح اقتصادية وسياسية ومالية لا علاقة لها لا بالسلامة العامة ولا بمصالح الناس العاديين، فمثلا كون العديد من هذه التجمعات التي ادرجت تحت مسميات البدع يعتمد على نشر العلاج بالاساليب الطبيعية والاعشاب، والامتناع عن الادوية الكيماوية المعروفة، فقد كان لشركات الادوية الاحتكارية الكبرى، على سبيل المثال، دورها الاساسي في الدفع الى الحملة المذكورة، كما كان لجهات اخرى ولاهداف مماثلة دورها في ذلك، ولتبرير الامر دفعت الى تأسيس بدع هي فعلا من باب الهلوسة والتخريب والضياع، اما قصة حادثة الانتحار الجماعي، فيبرهن الباحث بالدليل العلمي كيف انها كانت قصة مفتعلة ذهبت ضحيتها مجموعة من الابرياء ليكون موتهم مبررا لاطلاق الحملة.
والطريف ان الرجل يمضي في مقارنة هذه التلفيقة الكبيرة بأحداث الهولوكوست وباحداث 11 سبتمبر، حيث يمضي عميقا في ايضاح الكذبة الكبرى التي حبكت بها تفجيرات ايلول، خاصة البنتاغون الذي سقط عليه صاروخ وليست طائرة، اما زيارة اولبرايت، دفاعا عن الحريات فترتبط بان تنظيم شهود يهوه وتنظيمين يهوديين اخرين اعتبرت ايضا من ضمن البدع بحسب الحكومة الفرنسية.
سؤال بسيط اطرحه على الرجل : ولماذا البدع ؟
لماذا يتجمع الناس في هذه التكتلات المشبوهة ليتعرضوا لما تقول، حتى ولو اعتبرنا كل ما تقوله صحيحا ؟
ويأتيني الجواب الذي اعتبرته اهم ما حصلت عليه من هذه المغامرة الفضولية : – »اعتقد ان السبب الرئيسي هو غياب الروابط الاجتماعية، الذي جعل الناس يشعرون بصقيع الوحدة، ويفتشون عن أي مبرر لتكوين تجمعات انسانية تمنحهم التواصل والدفء، اضافة الى ان غياب الايمان الديني، وسقوط المدارس العقائدية الكبرى التي عوضت هذا الايمان لدى الشباب خاصة، جعلتهم يفتشون عن ايمان ما يبتدعونه«.
اهم ما سمعته لانه يحيل الى كل ما ننتقده بشدة في تركيبة حياتنا الاجتماعية العربية، انتقاد قد يجعلنا نصل، ودون وعي بالمخاطر، الى رمي الطفل مع ماء حمّامه.