رغم كل شيء يشرق الصباح، كأن ثمة ضوءا ما، عنيدا وثابتا يصر على الاختراق.. وامام فضاء النافذة الفسيحة المشرفة تتناقل الايدي والعيون، الاشعة التي يفيض بها عمل مبدع لتعبر الى الروح املا وثقة مبدعين.
مجموعة لوحات جديدة لتمام الاكحل شموط، نص جديد لتوفيق زياد، وكتاب اطلس جيد صادر في بيت ساحور.
تمام تجهد بفرح على ترجمة تشكيلة لمفهوم تعريب اللوحة، عبر الاسلوب والرموز والخط والموضوعة.. توظف الحصان بصيغة جديدة جديدة تستوحي ايقاع يا ليل يا عين وربع الصوت، المميز للايقاع العربي، وتبني عالما يختلط فيه الكلاسيكي بالتجريد والحداثة، التي تؤكد على ان لكل امة حداثتها، طالما ان لها خطها، خصوصيتها، وقضاياها وبشفافية واعية، ينتقل الحصان من تجسيد للتحدي والكبرياء في لوحة، الى تجسيد حنون للامومة الحاضنة في اخرى، قائلا بريشة امرأة فلسطينية. ان تلك الجياد التي تصهل على طريق الذبح هناك، لا تفعل لان امهاتها اقل حنانا، لا ولا لان في عيونها تطلع اقل للحياة وجمالها.
في تصد آخر تفرط تمام عقدها الذهبي القديم، لتشكل من وريقاته حلي فتاة الوركاء الشهيرة، تلك التي لم ترحم بهاءها الالفي ايدي لصوص المغول والتتار في العراق.
لماذا اختارت الفنانة هذا الوجه، من بين كنوز المتحف العراقي المسروقة، لتجسده، وتصوغ به رسالة استعصاء جديدة؟
الا انه الابهى؟ ام الاثرى؟ ام هو خيط خفي بين المرأة والمرأة؟ ام هي ياء النسبة بين الجدة والحفيدة وان بعدت شجرة العائلة؟
على اية حال، ان هي الا الاستجابة السريعة التي تؤهل لها خبرة الفلسطينيين في حرب الابادة الحضارية التي تتعرض لها امته.
خبرة.. يترجم التصدي لها، في احد وجوهه في كتاب اطلس رائع لفلسطيني صادر في بيت ساحور، القرية الصغيرة المجاورة للقدس. اطلس مفهرس بدقة، ومرصوص بالصور والخرائط على انواعها من جغرافية الى طوبوغرافية الى جوية. يقدم كل شيء عن فلسطين، حتى طيورها وحتى القرى التي ازالها اليهود عن ارضها.
دقته، تقنيته العالية، اخراجه الانيق، لا يوحي بأنه نفذ في ظل كل الظروف التي نعرف. لكنه -ولانه كذلك- يحمل، اضافة الى كل قيمته ككتاب، رسالة محددة الى تلك الظروف كلها.. رسالة استعصاء مرة اخرى.
وبعد اطلس بيت ساحور، حديث آخر من الناصرة، نائلة توفيق زياد ونص مخطوط اكتشفته مؤخرا بين اوراق زوجها رواية من نوع الرواية الوثائقية او ما يسمى فنيا بـ»الدوكودراما« ومشروع تحويله الى عمل سينمائي او تلفزيوني. رسالة استعصاء اخرى يوجهها هذه المرة، بنكهة خاصة ذلك المبدع الكبير: استعصاء فردي وجمعي علي الموت. فمن يجرؤ على استعمال لقب المرحوم لشاعر ما تزال اعماله تولد وتتوالد بعد موت جسده، معلنة عن اصراره على مواصلة مشاركته لشعبه في مقاومته الاسطورية للموت.
رسائل استعصاء على الموت، ودعوات رجبة الى الحياة، تقول ان غبار الغناء النووي الذي يهب علينا كطوز الصحراء، قادر على ان يهزم الجحافل والقيادات والاصوات العالية وراء الميكروفونات، لكنه سيخسر كاشفا عن روح الشعب، ذلك القبس العظيم البسيط، الذي يحفظه المبدعون في قناديل الزيت المعلقة تحت قناطر الحياة.
رسائل نتبادلها بمحبة، بضع نساء امام نافذة، حول قهوة تمام الاكحل شموط، فاذا للقهوة عطر الهال، وعطر الامل.