تدمير ذاتي!

صحيفة الدستور، 20-07-2003

في مؤتمر دولي حول حوار الحضارات عقد في القاهرة، التقيت رجل دين لبنانيا شيعيا طالما كنت اكن له احتراما كبيرا، كفقيه سيد، وكإمام مناضل، وخضت معه نقاشا حول موقفه من العراق »كان ذلك قبل الحرب«، وتوقف النقاش عندما قال لي ان واجب الفقيه التصدي للظلم والاستبداد ايا كان مصدرهما والدفاع عن الحق والحقيقة مهما كان الثمن، وما عدا ذلك خيانة.

بعد اشهر قليلة التقيته في بيروت، وعاتبته باحترام على انه تجنب في لقاء تلفزيوني مطول اي تأييد للمقاومة العراقية، فأجابني: انا لا استطيع الآن ان اتخذ موقفا واضحا، علي ان انتظر الى ان تستوي التوازنات.

وعندما اردفت باستغراب: واين واجب الفقيه في التصدي للظلم والانتصار للحق والعدل؟ ابعد الاحتلال ظلم ومصادرة للحق؟ الم يعد التخلي الآن خيانة؟

ابتسم وقال: لدي موعد وقد تأخرت. ثم ذهب دون ان يترك لي مجالا لسؤال آخر: ما هي التوازنات التي يتوجب انتظار استوائها؟ وهل هناك توازن اهم من توازن الوطن مع حريته وكرامته؟ وتوزان الانسان بين كرامته الشخصية وكرامة وطنه اذ لا تستوي الاولى، على اهميتها، بدون الثانية.

لم يترك لي مجالا للسؤال، لكنه ترك لي مجالا كبيرا للتأمل فيما يمكن ان تشكله الانتماءات الطائفية من تشوه فكري واخلاقي وسياسي وطني، وبالتالي من قنابل موقوتة جاهزة لتفجير اي مشروع وطني حقيقي.

فالانتماء للكل يجمع الكل ويضمهم ويضعهم في مواجهة الآخر، اما حلفاء او اصدقاء او اعداء.. ولكن في كل ذلك انداد.

في حين ان الانتماء للجزء بجزئيته يفرق ويمزق ويشتت، ويجعل الطاقة التي يفترض ان توجه كلها لتحقيق مصلحة الكل في الحرية والنماء، اجزاء طاقات يضرب بعضها بعضا، ويستنزف واحدها الاخر، في عملية تدمير ذاتي رهيبة، توفر على العدو جهده في التدمير الخارجي.

فمنذ الازمة العراقية التي سبقت الحرب، كان من المتوقع، انه في حال مواجهة الاحتلال لمقاومة عراقية فاعلة، فإنه سيعمل اولا على قمعها بكل قدرته، حتى اذا وجد انه عاجز عن وقف تناميها، وان خسائره على يدها ستوقظ ذكرى فيتنام وتضع بوش وادارته في موضع جونسون، وعلى ابواب الانتخابات الرئاسية الجديدة، فإن الحل الوحيد امام قوات الاحتلال سيكون اشعال حرب اهلية، تقوم اولا على الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة، ومن ثم تتطور انفجارات القنبلة العنقودية على جميع مستويات التفتيت العرقي والديني في البلاد، مستويات مهيأة سلفا وبشكل استثنائي للتوظيف والاستغلال.

تشكيل مجلس الحكم الاستشاري لم يكن بعيدا ابدا عن هذه السياسة، فقد صيغ بطريقة تدق اسفينا هائلا بين السنة والشيعة. تجحف حق الاول فيثورون ويهددون ويخرجون الى الشوارع، للمرة الاولى بصفتهم سنة، ويسترضي الشيعة فيخرج الينا بحر العلوم بتصريح غريب لا يحمل رائحة واجب الفقيه الذي تحدث عنه السيد اللبناني، بل يحمل رائحة حقد اعمى، وحرصا اكثر عمى على »التوازنات« التي كان زميله ينتظر استواءها.

هكذا يوصل الانتماء التجزيئي، فئويا او طائفيا، الى بيع الوطن، ووطن كالعراق، ببضعة مقاعد في مجلس حكم لا يحكم، بل يقدم المشورة للحاكم المحتل كي يثبت احلاله وينجح تجربته، فيربح معركة الانتخابات في بلاده، ويربح نهب ثروات بلادنا، ومعها نهب الكرامة واحلام التقدم والتطور.

لم يأت الامريكيون ويساعدونا لاجل سواد عيوننا – قال بحر العلوم- وليس من يجهل ذلك، هم جاؤوا ليحتلوا ليسرقوا النفط والمياه وترواث الارض، ليسخروا البشر، ليضمنوا هيمنة اسرائيل على المنطقة، ليقضوا على آخر حلم قومي بالوحدة والحرية.

كلنا نعرف، والامام الفقيه بحر العلوم يعرف.

اهو التواطؤ اذن، ام هي الخيانة؟ ام هما معا نتاج مرض التجزئة والفئويات العرقية والدينية والطائفية؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون