“كان جاك بيرك منحازا للاصالة وضد الاصولية “هكذا عرف جان بيير شفينمان الرجل الكبير الذي يعتبره استاذا وابا روحيا خاصة في قضية فهم الحضارة والعلاقة بين الحضارات ، فهم حاول التلميذ ان يستعرض ملامحه في محاضرة القاها في المركز الثقافي السوري بباريس .
ليترك الحضور يخرجون بتعليق واحد : كم نحن بحاجة الى هذا الصوت الان في واقع تجبر فيه الحضارات على التصادم والتمرغ في وحل الاصوليات المختلفة التي لم تفرخها الا مزارع الاطماع الاستعمارية الكبيرة التي تتخذ في كل مرحلة حلة ، لعل اخرها حلة منطق السوق الذي يقتضي جعل ارض البشرية كلها حقلا ممهدا لجرافاته.
الاصالة هي الهوية قال بيرك، وكرر شفينمان ، والمجتمع مظلة كبرى تأوي جميع من يستظلها من اعراق واديان وملل واتنيات .اما التاريخ فرؤية ، واما العدالة فكرامة الناس واحترامهم ، واما المساواة فقبول الاختلاف وفي سياقاته ، واما الشجاعة اخيرا فالوقوف ابدا في صف المظلوم.
هل اصبحت هذه المبادىء الحقيقية التي تلخص كلام شفينمان عن بيرك، مجرد شعارات مثالية لاوجود لها على ارض الواقع ؟
لو كان الامر كذلك لما وجد من يحملها ويناضل لاجلها حتى بالدم ، لو كان الامر كذلك لما وصل جاك بيرك ابن موظف الاستعمار الفرنسي في الجزائر الى الاضطلاع بترجمة القرآن الكريم ، ولما وصل جان بيير شفينمان الى الاستقالة احتجاجا على حرب الخليج .
ولكن هل استطاعت تلك الاستقالة ان تمنع الحرب والاحتلال والدمار ؟
وحتى على مستوى العلاقة بين الحضارات ، أي شرخ تركته هذه الحملة المفتعلة باسم الارهاب ؟
شفينمان الذي قال عام 1991 ان خيار الحرب سيؤدي الى نتائج مأساوية، من اهمها حالة الفوضى واللبننة والكراهية التي ستنشأ بعدها ، ليس في العراق فحسب وانما على الشاطىء الشرقي للمتوسط ، ولن تتأخر في ان تعبر الى الشاطىء الغربي فيما لا يستطيع التوازن الهش للمجتمعات الغربية تحمله ، يبدو الان وقد تحولت مخاوفه تلك الى حقائق على ارض الواقع ، اكثر ميلا الى اشاعة التفاؤل ، لا على المدى القريب وانما البعيد لانه يعتبر ان موقف اوروبا عام 2003 المختلف عن موقف عام ،1991 قد لطف من حدة منطق صراع الشرق والغرب ، ومد جسورا رغم كل المرارة بين القارة العجوز والعالم العربي ، لا بد وان تفرز ايجابيات في المستقبل . اما هذا العالم العربي بما فيه العراق المحتل فلن يعجز عن توليد آلية جديدة تعيد اليه حيويته ودوره التاريخي ، ولو احتاج ذلك الى وقت او الى مرحلة من الفوضى الصعبة ولكن المؤقتة والعابرة ، وذلك بأكثر من دليل منها التبلور السريع للمقاومة العراقية والصمود الطويل للمقاومة الفلسطينية .
اهو تفاؤل مبالغ ام رؤية رجل السياسة الستراتيجي الذي لاينظر الى الامو بآنيتها المحدودة وانما ببعد تاريخي طويل النفس ؟
سؤال ربما يساعد في الاجابة عليه موقف الاستاذ ، جاك بيرك من اتفاقيات اوسلو ، حيث عبر عن معارضته لها لان اية اتفاقيات غير متوازنة وغير عادلة لا يمكن ان تؤدي الا الى انفجار جديد واشد !!