من هذه الغرفة البعيدة في باريس الى تلك الغرفة البعيدة في بغداد يحملني موتك يا عائدة. غرفة مشتركة في فندق المنصور تجمعني بك وبحمولة الادوية التي حملتها معك من عمان، واصررت على توزيعها بيدك على المستشفيات والمستوصفات، لم يعد سرا ان نقول ان تلك الطريقة هي الضمانة الوحيدة لوصولها الى من يحتاجها وعدم تسربها الى السوق السوداء.
كما لم يعد سرا ان نقول ما كنا نتداوله في امسياتنا في ذلك الفندق من ان معظم الاتين الى ذلك المؤتمر الذي انتهينا منه للتو، او الاتين بحجة حمل التبرعات او علاج اطفال مرضى، انما كانوا يتوزعون على خطين : اولئك الذين يعملون على تحقيق مكاسب ومزايدات سياسية يتاجرون بها على ساحاتهم، واولئك الذين قدموا وفي جيوبهم ونواياهم خطط لاستثمارات غير مشروعة او للحصول على كوبونات بيع النفط.
كانت السفينة تغرق وكان فئرانها اذكى من ان يهربوا فارغي الوفاض، كانت فرصتهم ليحملوا ما استطاعوا اليه سبيلا من موجوداتها في غمرة تواطؤ اوغفلة اضطرار قاهر.
وكنا نحن الانقياء السذج، الذين لم نتناول الطعام يوما في مطبخها، ولم نحتس الخمر في كواليسها، ولم نهتف على سطحها، نحاول ان نمنع الطوفان باكفنا.
وكنت انت الانقى والاصدق يا عائدة!
لا لان الموت يجعل المرء مجردا الا من حسناته، بل لان كل مقدمات حياتك، للذين يعرفونها، كانت تؤهلك لدور غير الذي نذرت نفسك له بمطلق ارادة واعية، وبعيدا عن اية طموحات من تلك الصغيرة التي يراها الصغار كبيرة. ونعرف نحن القريبين منك، حجم الاغراءات وحجم الضغوط التي واجهت. من المناصب الحكومية والبرلمانية والدولية، الى انواع التهديدات التي تتجاوز حدود الحياة الشخصية الحميمة.
انظر هناك، الة الرقعة العربية في ارضها، وارى البغاث الذين يتدافعون ويتهافتون وينتحرون على ما تعاليت عن النظر اليه.
وانظر حولي هنا الى الرقعة العربية المهاجرة، التي تتوسل عقدة نقصها ونقص بيئتها امام هذا الغرب، بمجرد القول انها تعيش فيه، او تتزوج منه، حتى ولو كان العيش تسول ارصفة والزواج لمجرد جواز السفر.
وانظر في الرقعتين الى الاستماتة على جنة العمل في مؤسسة اجنبية، وانظر اليك تضعين العائلة وارث الاب المسؤول الكبير والجنسية الاميركية بالولادة ومؤسسة فولبرايت في الخزانة، وتحملين على رقبتك السلطية العالية كوفية فلسطين المذيلة بعلمها، وتسيرين مستميتة في العمل لانقاذ العراق.
انظر الى اولئك الذين دخلوا العمل لاجل »القضايا« معدمين وانتهوا اثرياء،وما افقرهم! وانظر اليك حتى لحظاتك الاخيرة تشرفين على مشروعك الانتاجي الحرفي وتمولين منه نشاطاتك، وما اغناك!
اراني اشد يدك دامعة ونحن نقف امام حلمك الكبير المتجسد »جدارية العودة« تلك القطع الصغيرة التي مثلت كل منها قرية او مدينة في فلسطين، وطرزنها نساء الاردن لتجمعيها في جدارية بليغة تحمل اكثر من رسالة بليغة واكثر من دلالة، احداها ان الناس البسطاء بممارستهم لحياتهم وتراثهم هم الذين يحققون الحقيقة البعيدة عن الاقليمية المفتعلة ويحققون الحفاظ على هوية البلاد وحلم العودة : عودتهم اليها وعودتها اليهم.
لكأنك اردت وانت ترسمين الوطن بهذه الفسيفساء الشاسعة ان تجسدي وراثتك التاريخية لاولئك المادبيين، فناني واساتذة اهم واكبر مدرسة لتعليم الفسيفساء في الامبراطورية الرومانية. لكنها فسيفساء اخرى بالابرة والخيط والغرزة، يوحدها مع تلك التي من تراب وحجر نفس الانسان ويده ورموزه.
نفسك النقي هذا، هو ما يستعصي على الموت ويبقى فينا… نفحة من نفس كل اولئك المقاومين الانقياء على امتداد ساحات الوطن الكبير.
تعودني مساءاتنا تلك في فندق المنصور، واراك تدورين في الغرفة حاضنة راسك بيديك : لا يمكن للمرء ان يستطيع النوم بعد ان يرى ما رايته في النهار يا حياة!
تنتهين الى حبة منوم تهدأين بها حتى الصباح… وتستأنفين.
هل كان الموت هو حبة المنوم الكبرى التي عالجت بها هول الان، دون استئناف، يا عائدة؟