الهنود الحمر والمستعمرون الاوائل

صحيفة الدستور، 01-12-2003

كاللص ! كلمة واحدة قالها امام احد مساجد بغداد تلخص كل معاني زيارة جورج بوش الى العراق، لا من باب الشتم التهويلي الذي يأخذه بعض المتشدقين على الخطاب العربي، بل من باب التحديد المنطقي الواقعي القانوني، فاللص هو الذي يأتي ليلا، وسرا، وخائفا، ويذهب خلسة وبسرعة ولا يترك اهل الدار يرونه، وهو الذي انما يفعل كل ذلك لانه يقوم بسرقة مال ليس له ولا حق له فيه، ولذلك يعرف جيدا ان اهل البيت اذا ما انتبهوا الى وجوده سيقومون بعمل ما للامساك به او لطرده وربما لقتله.

هذا الكلام الواقعي البسيط يترجم سياسيا وقانونيا بجملة معان تجعل من هذه الزيارة المسترقة خلسة عكس ما اريد لها تماما، معان يمكن تجسيدها بجملة من المقارنات السيميائية (السيمياء هي علم الاشارات والدلالات)، بين الصور والخطب :

الاولى بين صورة بوش بالزي العسكري ذاته، زي الطيار الذي يبدو انه يحب ارتداءه كثيرا كما الاطفال في يوم العيد، او ان مخرج ظهوره الهلامي يختاره له، اذن صورته قبل ستة اشهر فقط وهو يعلن انتهاء العمليات العسكرية في العراق، والانتصار النهائي للولايات المتحدة الاميركية و »تحرير العراق« وابتهاج الشعب العراقي بهذه المنة التاريخية الكبرى، وصورته بالامس بنفس الزي وهو يعلن ان بلاده في »مهمة صعبة« وطويلة في العراق، وانها لم تقطع مئات الكيلومترات وتقدم »التضحيات المرة« لتنسحب امام هؤلاء المجرمين والقتلة الذين »يختبرون ارادتنا« و يراهنون على »هربنا« ولذلك »علينا ان نحافظ على وضع الهجوم« و »سنربح«.

هذه هي عبارات الرئيس التي لا تعكس شيئا من خطاب منتصر، او »محرر« وانما عبارات غاز، مأزوم يعيش مأزقا صعبا ويحاول ان يرفع المعنويات المنهارة لجنوده، ويهيئهم لحرب طويلة صعبة.

المقارنة الثانية بين صورة ظهور صدام حسين في الاعظمية بعد سقوط بغداد، وصورة ظهور جورج بوش في المطار الذي تحول الى قاعدة عسكرية اميركية (مؤقتة في انتظار الانتهاء من تحضير قواعد دائمة) : فالرجل الذي كانت وسائل الاعلام الغربية تشيع انه يعيش في حصن تحت الارض خوفا من الخروج الى الناس، الديكتاتور الذي كانت ترسم له هذه الصورة لما لها من وقع في الذاكرة الغربية حيث تذكر بهتلر وحياته في حصن تحت الارض، القائد الذي كان له من يحبه وكان له من يكرهه، ومن تمنى قتله في الظروف العادية، لم يخش من الانضمام الى مصلى مسجد الاعظمية، والانخراط وسط الناس دون اية حراسة، او حتى أي سلاح الا مسدسه الشخصي، لا، لانه نسي ان للناس الكثير ضده بل لانه كان يدرك ان لحظة المواجهة الكبرى مع الغزو الاجنبي تؤجل المحاسبات الداخلية لدى الناس الاصلاء، الذين يقدمون، فطريا او عن وعي، الوطن.

كان صدام حسين كل ما كان، من خير ومن شر لكنه كان وسط ناسه، وبلاده، وما يزال كذلك. ولذلك كانت صورته ذلك اليوم تعبر عن ذلك، كما كانت صورة جورج بوش بالمقابل، تعبر ايضا عن المقابل، فبوش ايضا لم يظهر الا وسط ناسه، جنوده، ولكنه لم يصلهم الا ضمن اجراءات امنية وسرية لم يسبق لها مثيل، حعلته فعلا اشبه باللص، اما العراقيون، فلم يجرؤ على ان يلتقي منهم الا عملاؤه الذين لم يرقوا بنظره الى موقع الثقة، اذ جيء بهم الى المطار دون ان يبلغوا لماذا. ويظل ان الصورة الاولى صورت رجلا في شارع ومسجد بكل ما لذلك من دلالات، والثانية صورت رجلا في قاعدة عسكرية بكل ما لذلك من دلالات.

اما المقارنة الثالثة فبين صورة شوارع لندن خلال زيارة بوش الاخيرة، أي شوارع العاصمة الحليفة، وصورة شوارع بغداد، العاصمة المحتلة المغزوة، خلال هذه الزيارة، تلك ضجت كالسيل الهادر بفضيحة الغزو، وهذه غيبت كليا عن زيارة اللص، التي قالت اوساط الادارة الاميركية نفسها انها نظمت بحيث تحط طائرة الرئيس ليلا وتذهب ليلا كي لا تتعرض لصواريخ المقاومة كما حصل في الاسبوع الماضي.

واخيرا الصورة الاكثر مرارة ودلالة، صورة جورج بوش وهو يحمل الطبق الكبير الذي يربض عليه الديك الرومي التقليدي، طبق يرمز في التقليد الاميركي الى تعاون الهنود الحمر مع المستعمرين الاوائل!!!!!!

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون