اشيائي تركت الحقائب واخذت تستقر في اماكنها… انظر حولي واستأذن الرجل العجوز الذي اجرني البيت تغييراشياء من الاثاث الذي وضعه لي، يوافق، باستثناء السرير العتيق المتعب، اصر، فيوضح: (لهذا السرير قيمة معنوية خاصة، فعليه قتل النازيون اخي الاصغر المقاوم خلال الحرب العالمية الثانية..)
للحظة اولى، اشكر الله بالعربية، لان ذلك الحدث يعود الى الحرب الثانية وليس الى الاولى..
ولكن، ياتي المساء واذ المشكلة تتفاقم… لم تعد القضية قضية راحة، ثمة شيء اخر يتعب، يؤلم، غير الظهر والعمود الفقري… اقرر ان انام على الكنبة الكبيرة المريحة في الغرفة، لكن ذلك السرير يمتد امامي كالقدر.. كالهاجس
هناك ما هو ابعد من صعوبة ان تنام مكان رجل قتيل…
هناك ما هو ابعد من الهنا، ما هو قائم هناك في ذاك الهناك الذي يظل ابدا الهنا الذي يسافر في الحقائب وينام تحت الوسادة.
ها هم النازيون يقتحمون الغرفة المظلمة، يفاجئون الشاب المقاوم الاعزل الغارق في غفوته، ها هو يتضرج بدمائه، اسمع صوته، اصواتهم، اصوات رصاصهم، صوت امه في الخارج، يا الهي، أأنا في باريس ام في جنين، ام في الفالوجة، في غرفة مطلة على دجلة ام على نهر الاردن، ام على الليطاني، اهذا الذي يشرئب امام نافذتي برج ايفل ام مئذنة المسجد الاقصى ام ملوية سامراء؟؟؟
أي قدر حملني من بين كل اسرة باريس الى هذا السرير العتيق؟!
وهؤلاء الذين يحتفظون منذ ستين سنة، في شقة صغيرة صغيرة في واحد من ارقى احياء باريس، بسرير بال متكسر ، احتراما لذكرى شهيد مقاومة مات عليه، لماذا لا يفهمون مقاومتنا التي لم تدم اربع سنوات فقط بل جاوزت الاربعين منذ وقت طويل ؟ لماذا يقبلون لها اسم الارهاب؟ لماذا يفاوضون ميركانتيليا على خنقها في العراق ؟
اوليست دماء هذا الشاب الذي خرج لي من القبر هنا، هي التي اعطتهم ذاك الحق الخطير في مجلس الامن، الحق الذي استطاعوا بفضله ان يرغموا ليبيا على ان تدفع لهم كما دفعت للاميركيين، ويحاولون المراهنة عليه الان ليرغمواالاميركيين بدورهم على ان يعطوهم حصة في الذبيحة العراقية ؟
ادماؤهم هي الاغلى ؟ ام ان ساستهم قد عرفوا توظيف تلك الدماء في حين اخفق ساستنا؟ ام ان من ينكر نظرية المؤامرة بالنسبة لقضايانا القومية هو اغبى من الذي يلقي كل اللوم عليها ؟
لا الاسئلة و لا التأملات تستغرقني طويلا، صورة الشاب القتيل وحدها تحتل الظلام والنور على حد سواء، تتداخل مع عشرات الصور التي تقفز من شاشات التفزيون، من الروايات، من الذاكرة ومن الخيال، من معايشة تمتد من تلك الامسيات الريفية التي كان العمال القادمون من مخيم نهر البارد لقطاف الزيتون في مزرعتنا الريفية، يمضونها في رواية اخبار الهجرة، الى تلك الايام الصعبة التي عشناها في الحرب اللبنانية، وفي الجنوب الى كل ما وصلنا عبر الاعلام منذ الستينات وحتى الى ما قدره لنا الله وسياساتنا الخرقاء من موت.
قبل ايام كان فيصل دراج يقول لي : »تهربين الى الدراسة، حسنا هو على الاقل هروب مثمر «
تبقى الصفة ويتبخر الاسم : »مثمر!! صحيح، لكن الهروب مستحيل…ثمة اقدار مكتوبة على الجبين.«
في الصباح اذهب الى الرجل العجوز : »اما هذا السرير واما الغاء العقد«
يوافق، ولا اعتقد انه فهم!
افكر، لو كان لاولئك الذين بيدهم عقود حقيقية على ثروات الامة ان يفاوضوا هكذا !!!
ولكن….على ماذا؟؟؟!!