دائما كانت التوازنات تفترض طريقا ثالثا ، خطا ثالثا ، فعندما كان العالم ينقسم الى معسكرين : الكتلة الشرقية والغرب نشأت منظمة عدم الانحياز ، وعندما سقطت الكتلة الاولى واصبح العالم احادي القطب اصبح مصطلح عدم الانحياز ، كما مضمونه غير ذي معنى ، اذ بدا ان العالم كله انحاز الى صف واحد ممتد وراء القيادة الاميركية ، وفي حين بدا ان احتلال العراق سيكون التكريس القطعي النهائي لهذا الاصطفاف، تتكشف النتائج الان عما هو عكس ذلك تماما ، اذ ان الغرق الاميركي في المستنقع العراقي، والمأزق الذي يتعاظم يوما بعد يوم ، على الصعيد الاميركي الداخلي او الخارجي ، جاءا ليعيدا العالم الى تعددية الاقطاب ، وليكسرا الغطرسة الاميركية امام الحاجة الى مساعدة اوروبية روسية .
لكنها منافسات عادت لتدور بين اهل البيت الواحد ، أي بين الاعضاء الخمسة الدائمين الذين حصدوا دائميتهم هذه نتيجة انتصارهم في الحرب العالمية الثانية (هذا على الصعيد الديبلوماسي الدولي) او بين الدول الصناعية الرئيسية ( على الصعيد الاقتصادي)
امام واقع اعادة التشكل الدولي هذه كان لا بد ان تبرز قوى اخرى ثالثة، قوى غير الصين التي يعرف الجميع موقعها وطبيعة العلاقة الاشكالية التي تربطها بالغرب ، اذ تضعها في مواجهة الولايات المتحدة الاميركية ايديولوجيا وسياسيا واقتصاديا ، وفي تعارض اشكالي مع اوروبا التي ترفضها ايديولوجيا وتحاول ان تقيم معها رغم ذلك علاقات خاصة ، كما تفعل فرنسا التي اعلنت هذا العام »عام الصين« على المستوى الثقافي .
قوى اخرى اذن …..
وها هي لم تتأخر في البروز ، فمن كانكون الى الامم المتحدة اتضح دور المحور الثلاثي : الهند- البرازيل جنوب افريقيا ، ( والعارفون يقولون ان البرازيل بدأت في العمل على هذا المحور منذ مفاوضات منطقة التجارة الحرة لدول اميركا الشمالية ونجحت في الوصول الى جنوب افريقيا عن طريق موزامبيق )
في كانكون بدا دور المجموعة فاعلا جدا على الصعيد الاقتصادي ، وتركزت شعاراتها في ثلاث : اصلاح التجارة الزراعية – حقوق الانسان الحق في التنمية -، لكن مطالب المثلث الذي وصفته اوساط الامم المتحدة بانه : قوي جدا ، لم تقتصر على الاقتصاد ، حيث انتقل الى الامم المتحدة ليطرح مطالب سياسية دولية من مثل اصلاح وتعديل مؤسسات المنظمة الدولية .
وايا تكن التحليلات المحيطة بتحرك هذا المثلث ، فان تشكله اضافة الى مجموعة السبع والسبعين القائمة في الجمعية العامة ، ووضعهما في اطار التحولات الدولية ، يؤكد ان ثمة ارهاصات تشكل نظاما عالميا جديدا ، جديدا جدا ، يعني انه يختلف عن ذلك الذي تم التبشير به بعد الحرب الاميركية الاولى على العراق، وربما لن يكون تبلوره متأخرا عن تبلور الحالة العراقية ، كما انه لن يكتمل بدون اكتمال تحولات اخرى في العالم العربي ، مما يحرك فينا سؤالا واحدا وخطيرا : اين العرب في هذا المخاض كله ؟
الم يكن تشكل حركة عدم الانحياز برأسين احدهما جمال عبد الناصر ؟
هل يعقل اننا اصبنا بالعقم الى هذا الحد ، ام انه الاجهاض المزمن الاسوأ من العقم ؟