منذ ان حللت مكان رئيس التحرير في زاوية مع الحياة والناس ، لليوم الثلاثاء ، اعتدت على هذا اللقاء الاسبوعي الذي كان استاذنا المرحوم محمود الشريف يصفه بانه »استراحة للكاتب والقارىء« على حد سواء يتحرران فيها من ربطة العنق ولباس الكاكي اللذين نتلفعهما في اعمدتنا السياسية اليومية ، وبما ان الاستاذ رئيس التحرير قرر استعادة مكانه من جديد ، فانني قرت بدوري ان اتمسك بمتعة هذه الاستراحة ، لي ولكم ، خاصة وان التجربة كشفت لي ان قطاعا كبيرا من القراء يفضلها على الجفاف الاخر الذي يستعصي على محاولاتي الجاهدة لترطيبه ، ولذا سأستمر ، داخل زاويتي ، في التزام النمط ذاته من الكتابة مرة في الاسبوع ، اعتقد انه من الافضل ان تكون يوم الاحد بما انني اعيش حاليا في بلد يعيش يوم الاحد استراحته الاسبوعية ، واتوجه الى قارىء قد يكون بحاجة مع بدء اسبوعه العملي يوم الاحد الى كأس ماء صباحي ، هذا اذا استطعت ان اجد ماء صافيا من لمحة مرارة ، او حموضة .
غير انني بدأت لهذا الاسبوع بغير الاحد ، انسجاما مع بدء شهر رمضان المبارك .
اليوم هو الاحد ، وباريس كلها تتمطى في يوم راحتها الاسبوعي، تتحرر من الركض السريع الذي يلفت نظرك في كل مكان ، في محطات المترو ، في الشوارع ، وحتى في اروقة الجامعات : صديقة تونسية تسألني قبل أيام : هل احببت هذا البلد ؟ وأرد : ككل بلد فيها ما يحب وما يرفض . فتردف : انا لا أحبها رغم انني فيها منذ سنوات ، تتعبني. ألم تلاحظي ظاهرتين غريبتين: الركض ! الناس الذين يركضون وكأن وراءهم سواقا لا يرحم ، والناس الذين يتحدثون الى انفسهم في الشارع .؟
الحظهم ، اجل لكنني اتساءل ايضا: السنا نحن (سلو موشن) اكثر مما يجب ؟
الا يعيقنا ذلك عن تحقيق الكثير مما نصبو اليه ؟
ولكن البديل ليس ابدا سوط الحياة المادية الذي لا يرحم ولا يميز ، بل ويقضي على منسوب كبير من الحياة الانسانية الاجتماعية ، من التواصل والتعاطف الذي يرطب قيظ العمر . ويحمي الانسان من ان يتحدث الى نفسه في الشارع .في ظاهرة تتكثف في الاحياء الراقية الفرنسية الصرفة ، والتي يشكل العجائز غالبية سكانها .
تأملات الاحد هذه تقود قدمي دون تخطيط الى اتجاه الاحياء الشعبية العربية ، وانتهي الى بارباس ، لا شيء من باريس هنا ، تسجيلات القرآن الكريم تتقاطع مع أم كلثوم ، ومع اغان مغاربية لا افهمها ، دكاكين الحلويات العربية تتراص ، مع دكاكين الخضار والبقالات ، والملاحم ، التي يسميها المغاربة »مجازر«، ( وافكر بأننا بالامس كنا نناقش في الجامعة موضوع تتفيه الاعلام لبعض المصطلحات والمفاهيم والصور من خلال كثرة تكرارها ،وباسلوب عادي ، كما يحصل مع صور الموت والدمار في فلسطين مثلا ، واسأل نفسي : الا توجد كلمة اقل رعبا من المجازر ؟)
حتى طريقة عرض اللحوم ، الخراف المعلقة : لم ارها منذ وصلت باريس بكامل قاماتها هكذا ، وأفهم لماذا يتقاتل عرب باريس مع بريجيت باردو .
بائع ضمم البقدونس والنعناع على الرصيف ، يتصايح مع امرأة تساومه على السنتات ، وتختم : »توكل على الله يا راجل ، الحمد لله السنة عيدنا كلنا مع بعضنا!«
اجل هذا العام صدر قرار عن مسلمي فرنسا بتحديد يم الاثنين بداية للشهر الفضيل ، بعد ان ظلوا طوال السنوات الفائتة على قاعدة : كل يتبع جماعته .!
من المطعم القريب يتعالى صوت نشرة الاخبار مالئا الشارع ، والبائع ينادي على بائع محل الملابس المستعملة المقابل (اجل البالة ايضا لا تغيب عن المشهد هنا ، لكأنها اصبحت جزءا من الهوية العربية ، مقابلا موضوعيا لرائحة النفط !) ينادي عليه : بارك الله ، بس لو اصابو هدا وولفوويتش ! ويجيبه الاخر : الله كريم …. اسمع ، الله اكبر على فلسطين ، كيف حيمضي رمضان ؟
في طريق العودة ، اكتظاظ ، وناس لا تركض لكنها محملة بأكياسها الكبيرة أو الصغيرة ، عرب وسود واسيويون ، كلهم جاؤوا للتسوق من هذه الضاحية الشعبية استعدادا لبداية الصيام او لبداية الاسبوع ، ليس بينهم من يتكلم الى نفسه ، بل ان كلا منهم يرافق آخرا او اكثر ، ولديهم الكثير مما يتحدثون عنه اما بفرنسية متعثرة ، تعثر محاولات الاناقة لدى بعض الفتيات بينهن ،واما بلغاتهم الاصلية التي تحول المترو الى برج بابل ، يجعلني استعجل الوصول الى شارعي الانيق ، لكنني اعترف انني ما ان وصلت حتى افتقدتهم .