احرف مبعثرة على قبة الكونكورد

صحيفة الدستور، 10-02-2003

عشرات المرات تنقلت عبر محطة الكونكورد في مترو الانفاق في باريس . وعشرات المرات رأيت جدران القبة التي تظلل المكان مكسوة على طريقة الكلمات المتقاطعة باحرف مبعثرة لا تشكل جملة مفيدة ، لكنني ، ولا ادري لماذا ، لم افكر مرة واحدة في ان اسأل عنها .

اتعرفين ما هي هذه الاحرف ؟ – تبادرني صديقتي الفرنسية – »لا«

– »انها احرف اعلان حقوق الانسان وحقوق المواطن«.

لهم الحق في ان يفخروا بما انجزته ثورتهم التاريخية ، ان يشموا جدرانهم وحياتهم باحرف تكرس حقوقا جنوها بدمائهم وعذاباتهم ، بعد ان اسسوا لها بفكر كتابهم ومفكريهم ، اولئك الذين لم يبحثوا ويكتبوا في السياسة فقط ، وانما في الاجتماع والتربية والاداب والفنون ، من مونتانيو الى جان جاك روسو ، ومن ماليرب الى بودلير ، ومن فولتير الى ديدرو .

لهم الحق في ان يضعوا امام أعين كل مواطن ، كل عابر للمترو، الى عمل او الى زيارة او الى موعد حب ، تذكيرا بحقوقه كانسان وكمواطن ، كي لا يفرط بها ، وكي يتذكر وهو يتذكرها اهرام التضحيات واهرام الألم والدماء التي اهرقت في سبيلها .

لهم الحق في ان يتركوني اتأمل طويلا ، انا المرأة العربية العابرة معهم ، في الحال الذي تركته ورائي ، في بلادي : اية حقوق للانسان وللمواطن في ظل نظام رسمي لا علاقة له بنا لا كناس ولا كمواطنين ؟!!

ولكن هل ضحينا نحن بما يكفي لدفع ثمن حقوقنا هذه ؟

نحن : نحن الكتاب والمثقفين ، نحن النشطاء السياسيين ، ونحن الجماهير الهادرة في الشوارع ، ولكن ليس الى باستيل او فرساي تنهي بانهائهما تاريخا اسود ليبدأ تاريخ آخر؟!!

هل عرفنا ان الحرية لا تستورد ولا تشترى من جيوب الاخرين وان الاستعانة بالاجنبي لن تؤدي الا الى حلوله مكان سلفه ، والى حلول الطفيليات الخطرة المتعاملة معه مكان تلك التي كانت تتعاون مع سواه ، هذا اذا لم تنتقل هي نفسها من سيد الى آخر (الم تكن عقيلة الهاشمي امينة سر لجان التضامن مع نظام صدام حسين حتى لحظة سقوطه ؟؟)

ولكن : اوليس من العدل ان نتذكر ايضا عقود التضحيات التي عشناها منذ توق التحرر من العثمانيين وحتى توقنا المتواصل الى التحرر من كل طغاة الداخل والخارج ؟

واذا كان هؤلاء الفرنسيون لا يملون من تذكيرنا باضطرار فولتير الى الهرب الى بريطانيا ، فكم من مثقف عربي ، وكم من منفى ، وكم من نظام لويس السادس عشر ؟!!!

كم من افواج من المناضلين في السجون وعلى اظافر الموت الممتدة من المشانق الى الرصاص الى اغتيال الفرد بواسطة طائرة وصاروخ ؟!!

لقد ثار هؤلاء مرة ، وعاشوا المقاصل مرة ، واحتلوا مرة ، وقاوموا الاحتلال اربع سنوات ، وسيظلون الى اخر القرون يتغنون بما ضحوه وانجزوه ، فهل كتب لنا نحن ان نعيش قرونا ونحن نقاتل ونموت لننتقل من عذاب سفر برلك ، الى نير المعاهدات الاجنبية مع الرجل المريض ، الى وعد سارق اسمه بلفور وجريمة مشرط مجرمين يدعى احدهما سايكس والاخر بيكو ، الى احتلال وانتزاع واحلال ، الى عالم كامل يكشر عن انيابه ويهجم لنهشنا بقيادة ابطال ابادة الهنود الحمر،

الم يكن جورج بيكو ابن هذه الاحرف التي اصبحت ورائي في محطة الكونكورد ؟

اوليس مثله ايضا من اعطى المفاعل النووي لاسرائيل ، من هاجم السويس عام 1956 ، ومن قصف العراق عام 1991؟

اصل انا الى المحطة التي اريد ، انزل ، يتركني ويصفر ماضيا في طريقه.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون