بين حديث سلمى الخضراء الجيوسي عن مشروع »المايكرو هيستري« اي التاريخ المأخوذ من الامور الصغيرة، من تفاصيل الحياة اليومية التي ترد تلقائيا وعرضا في ابداعات الكتاب على انواعها.
وبين كتاب منى حمزة الصادر بالانكليزية تحت عنوان »ايام عادية في الدهيشة« تتأكد حقائق وحاجات:
حقيقة ان التاريخ الحقيقي، ليس ذاك الذي يكتبه الساسة، والمؤرخون المكرسون، ومعدو المناهج التربوية.. حتى ولا وسائل الاعلام. وانما هو ذاك المتوزع نتفا هنا وهناك في روايات البسطاء الناس.
فالاول هو رواية السلطة، اية سلطة: دينية ام سياسية، ام اجتماعية، تولفها وفق مقتضيات التبرير والتوجيه والتحوير لتدعيم بقائها وسطوتها.
هو رواية المنتصر، يرتسم فيها المهزوم بكل ملامح الشيطان التي تبرر تدميره، ويرتسم فيها المنتصر منقذا بكل ملامح الفارس البطل التي تبرر جرائمه، بل القليل القليل، الذي لا يطاله التعتيم من جرائمه.
هو رواية المؤرخ، والمؤرخ الذي ان لبى اهداف السلطة السائدة، تم اعتماده، وان انحاز الى تلبية الحقيقة والعلم، فيما لا يراد له، ثم اضطهاده واتهامه بالتحوير.
هو رواية معدي البرامج التربوية المتميزين ببراعة الاستجابة لما هو مطلوب منهم، لتوجيه النشء في اتجاه ما، تفرضه ايديولوجية السلطة.
هو اخيرا، رواية الاعلام، الذي ان لم يحور، اخفى، وابرز، والقادر مع تطور وسائله التقنية، ومعارفه السيكولوجية، وارتهاناته المصلحية او المنحازة على تشكيل صورة الحدث والواقع، كما يشكل لاعب لوحة »البازلز«.
في المقابل الآخر، تقف حقيقة اخرى، حقيقة الدفق التلقائي، الذي تحمله روايات الناس في قصصهم، في شعرهم، في يومياتهم، في حكاياتهم البسيطة.
هذه الدفقات المتوزعة هنا وهناك هي ما يحاول التقاطه كاتب »المايكرو تاريخ« ليصوغ منه حكاية شعب او حكاية مرحلة. وهو المشروع الذي تعمل عليه الجيوسي.
الى جانبه، تندرج ايضا التوجهات العالمية نحو تشجيع ما يسمى ايضا بالتاريخ الشفوي، وهو ما يحاول كتاب وفنانون »خاصة اصحاب الافلام الوثائقية« ان يجمعوه حيا من افواه الناس.
كما تندرج من جهة ثانية تلك اليوميات الحارة، النابضة، التي تمسك الحدث والانفعال والفعل: الامور الصغيرة الصغيرة، انما هي اصوات وتقارير تجعل الدم يغلي في عروقنا. تمكننا من الشعور بالغضب بحيث نستطيع الحياة يوما آخر..«.
»اصطحبت طفلا معي وذهبت الى الدكان.. مصيبة حياتنا، ليس بيننا من يملك نقودا ولم نقبض منذ نهاية الشهر«.
»اكرم لا تموت.. منذ ايام مررت بك اتذكر الاوقات التي تناولنا فيها الطعام في منزلك، رسوماتك الجميلة ومستقبلك الواعد.. ضحكنا..«.
»هذه هي عملية السلام التي يريدون ان يدفعوا بها في حلوقها المتورمة..«.
الحذر الذي نشعر به يكتم خوفنا من الموت، والجميع راضون لان عرفات عاد بدون توقيع على اية اتفاقية.. جارتي ميسر قالت لي: لا تخافي من الموت، نحن نموت مرة واحدة، وذاك افضل من الوضع الذي كنا عليه قبل الانتفاضة، كنا نموت كل يوم مليون مرة«.
هل تسمعين ذلك يا ام حازم؟
»ابتلع حبة دواء اخرى.. لكنني لا اشعر بأي تحسن«. اشعر انني على وشك الاصابة بانهيار عصبي، كان لا بد ان افعل شيئا انفس فيه عن غضبي، نظفت المنزل بكامله ثم حملت خرطوم الماء والمكنسة وصعدت الى السطح..«
حين عاد زوجي صاح بي: هل انت مجنونة؟
اجبت: اريد ان احافظ على ما تبقى من عقلي.
ليست منى حمزة الاولى، ولا الاخيرة ممن يرسمون بهذا الحس الانساني التلقائي الصادق، تاريخ المرحلة.. تاريخ الناس الذي لا يذهب الى البيت الابيض، ولا الى شرم الشيخ..