كان يوماً استاذي.. وكان من افضل من درّس اللغة العربية، آدابها والنقد الادبي… ويتفاخر باتقانه ترتيل القرآن الكريم، وهو الماروني الجبلي..
لكن أفكاره السياسية، وهو الكتائبي المتحمس في حينها للدكتور جورج سعادة، كانت تجعله في حالة اشكالية بين طلابه، وتحديداً المسيسين من بينهم. بين من يتأثر به ويتحمس لما يطرح، وبين من يناصبه الخلاف المستمر.
سنوات، ما يقارب الثلاثة عقود، وحرب أهلية مادة اشعالها الأساسية التجزئة الطائفية وأمراضها وأحقادها.
وبالأمس أراه على شاشة الفضائية اللبنانية، مدعواً للتعقيب على لقاء الدكتور عبدالسلام المجالي.
السؤال الاول السريع: لماذا هذا الرجل بالذات؟ لماذا اختارت مذيعة حوار العمر الدكتور نبيل خليفة لهذا التعقيب؟
وبالأحرى لماذا اختاره لها معدو البرنامج، حيث أنها لا تمثل الا الواجهة الانيقة الباسمة، المتواطئة، بـ ومع لجنة اعداد غير معلنة الاسماء.
لم يعرف عنه يوماً انه خبير بالشؤون العربية، ولا مهتم بها. ولم يعرف عنه يوما اطلاع سياسي أو تحليل او حتى نشاط بارز.
لكنه كان يحمل خرائطه المعدة باتقان كبير كامل، ويحفظ درسه المعد باتقان بارع لطرح وايصال وترسيخ امور معينة من الواضح انها أعدت مسبقاً، ولا ترد اطلاقاً كتعليق على كلام الدكتور الضيف.
كان نبيل خليفة، كما عرفته تماماً، بارع الالقاء والشرح والتوضيح، وبأسلوب المدرس الناجح، وملتزماً تماماً بالتحضير الدقيق المفصل، والممنهج نقطة نقطة.
وكان – كما عرفته – خبيثاً في ابتسامته وأسلوبه في تمرير أفكاره.
أما النقاط – التي من المؤكد انها وضعت بدقة من قبل مجموعة أو جهة – فكانت تضرب في عظم قضايا التيئيس من المستقبل العربي، والتسويق للسلام الاسرائيلي، ولطروحات شيمون بيريز تحديداً.
لكن أخطر ما فيها هو هذا الموقف التحليلي الظاهر، البارد في حياديته بين »اسرائيل والفلسطينيين والعرب«، حيادية لا تمثل موضوعية علمية تقرب الخطاب من الاقناع، وانما تمثل موقفاً خطيراً يجعل لبنان والمسيحيين تحديداً، طرفاً ثالثاً خارج الصراع.
واذا كان هذا الموقف هو ما تمكنا من استشفافه خلال الحديث، فان استاذ الادب، كرسه بشكل خطير في نهاية حديثه، حيث أصرّ على التحدث عن المشروعية. لينسف المشروعية الدولية 242 و194 (وقد لا نكون متحمسين لها، لكننا نسأل لمصلحة من نسفها في هذا الظرف؟).
لكن الأخطر – وهنا بيت القصيد – انه لا يحل مكانها المشروعية الوطنية التاريخية التي تصب بدون جدال في صالح الحقوق الفلسطينية والعربية. بل يطرح وبتشديد المشروعية الدينية، التي يتساوى فيها برأيه المسلمون واليهود، وتضع المسيحيين خارجاً.
ان في هذا الطرح، أكثر من خطر، أكثر من قنبلة موقوتة، وأكثر من صاعق تفجير، هذا اضافة الى انها تنسف الحق الوطني من أساسه. فالأوطان – اية أوطان – لأهلها، للذين استمروا في التفاعل معها قروناً وأجيالاً، على ما بدلوه من معتقدات وما اعتنقوه من أديان، واذا كان الدين، لدى كل الشعوب مكوناً أساسياً من مكونات الثقافة، الاّ انه لم يكن أبداً سبب الانتماء وأساس الحق القوميين.
ففلسطين لنا، ومثلها كل شبر آخر تطمح فيه اسرائيل، لا لأننا مسلمون أو مسيحيون، بل لأنها بلادنا.
واذا كان ثمة اخوة ايمانية دينية تمنحنا خطاً مسانداً في صراعنا لأجلها، فذاك أمر جيد لا يستهان به.
لكن طرح المشروعية الدينية شيء آخر.. انه طرح يهودي بحت.. وكل من يسوّق له انما ينفذ المخطط الصهيوني ويحطم المشروعيات الواقعية الحقيقية التي لا مكان لاسرائيل فيها، لخلق مشروعية وهمية، تفسح لاسرائيل مكانها الفسيح. وتمنحها نهراً تنهل منه حججها.