” اذا كان هناك ثلاثون الف صارخ في غزة فليس المطلوب تدميرها، بل تدميرارادة اطلاقها، هذا ما يسمى الردع ”
هذه العبارة المقتطفة من حديث للسفير الاسرائيلي في باريس، هي ما يقدم التفسير العميق لما يحصل في غزة، من العمل على تركيع الناس، على كسر ارادتهم بكل الوسائل: القتل، التجويع، التعذيب، في اقسى ما عرفته مجزرة جماعية في العصر الحديث. وليس القول بانها الاقسى من باب المبالغة، اذ لم يحصل ان كانت المواجهة بين قوة طليقة وقوة محاصرة من كل الجهات، فيما يحولها الى معسكر اعتقال بكل ما تعنيه الكلمة. واذا كان من البديهي ان المسؤول الاول عن هذا الحصار ليس اسرائيل، فهي عدوة ومجرمة وتدافع عن بقائها، وليس الولايات المتحدة فهي حليفة هذا العدو وصاحبة المشروع الخاص في المنطقة، وليس اوروبا المتشدقة ليل نهار بحقوق الانسان لاننا سمعنا منذ اقل من شهر تصريحا لبرنار كوشنير يقول فيه بوضوح انه نادم على انشاء وزارة حقوق الانسان في فرنسا، ويطالب بالغائها لانها تعيق سياسته الخارجية. المسؤول الاول والاخير هو العالم العربي، بقواه المتامرة، وقواه الصامتة وقواه العاجزة. غير ان المسؤولية التارخية هنا لا تقتصر على مجزرة غزة وعلى مصير غزة، بل وعلى مصير الدول العربية القائمة نفسها. فالى اين سيقت مصر؟ اي تحجيم هذا الذي لحق بمكانتها واي تشويه هذا الذي اصاب صورتها واي مستقبل تواجهه هذه الدولة الرهينة بين شعب رهين جوع وافقار وحكم رهين فساد؟
وماذا سيكون عليه مصير سوريا والاردن ولبنان اذا ما هزمت المقاومة في غزة؟
اسئلة تطرح خارج السؤال المركزي المتعلق بتصفية القضية الفلسطينية نهائيا. لانها اسئلة تنبع من واقع ان تصفية القضية الفلسطينية لن يقف عند حدود فلسطين بل وسيعني تصفية الوجود السياسي والاقتصادي والاخلاقي للعرب جميعا، خاصة عرب المشرق. واذا كانت معاريف قد كتبت بعد احتلال العراق تقول: اليوم العراق وغدا السعودية، اما مصر فهديتنا الكبرى، فيبدو ان المخطط قد تبدل قليلا بحيث تقدمت مصر على السعودية في القائمة. لاسباب كثيرة تجعلها صيدا اكثر سهولة وفي مقدمة هذه الاسباب طبيعة الحكم فيها ومدى ارتهانه واستعداده لتلبية اية طلبات اميركية – اسرائيلية.
من هنا فان اول المطلوب من الدول والقوى العربية الاخرى هو الضغط على مصر لفتح معبر رفح بدون قيد او شرط، وهو مد المقاومة في غزة المحاصرة بكل شيء: من المؤن الى العلاج الى السلاح. وتطويق المبادرة الفرنسية – المصرية بمبادرة عربية اخرى، لها ان تبحث عن شريك دولي ولها ان تتحرك منفردة. شريك يتوفر على الساحة الاقليمية بدولتين جارتين: تركيا وايران، ويتوفر على الساحة الدولية في اكثر من طرف اسيوي او اميركي جنوبي او روسي.
واذا كان ثمة من يتشدق من هذا الطرف او ذاك بان نفوذ ايران وتركيا في المنطقة العربية هو امر خطير، لانه لا يخرج عن اطار المصالح والهيمنة، فليعلم هؤلاء ان الطبيعة لا تتحمل الفراغ، ولذا فمن المنطقي والطبيعي ان تحل القوى الجارة على ساحتك عندما تخليها انت. وهنا لا يكون العتب على من تصدى للساحة بل على من انسحب منها، فليتفضل العرب الى الاضطلاع بدورهم ازاء انفسهم، وعندها يمكنكنهم ان يبنوا تحالفات مع جيرانهم دون خوف وهواجس، والا فان مصيرهم لن يكون الا تحت قوائم الخيل، لانها القاعدة الذهبية الابدية في المعركة: اما ان تكون فوق الحصان واما ان تتقاذفك القوائم، ولا خيار ثالث.