من القرار السياسي، الى القرار الثقافي، واخيرا الى القرار الصحي، يظل المعيار، معيار الامبراطورية والبرابرة الجدد..
اجل نحن البرابرة الجدد، الذين يعيشون في Terra incognita الارض المجهولة، او بالاحرى: في المجاهل.
فاذا كان التطبيق الانتقائي للقيم السياسية وللاحكام السياسية قد بات شيئا بديهيا بالنسبة لما يخص دول الشمال في مقابل دول الجنوب، وتحديدا فيما يخصنا نحن العرب خاصة في العراق وفلسطين. فان ما حصل امس من رفض الجمعية العامة للامم المتحدة طلب العراق لدراسة تأثير قذائف اليورانيوم المستنفد، رغم ان منظمة الصحة العالمية قد تبنت طلب بغداد، وبدأت دراسة معمقة للاثار الصحية الناجمة عن استعمال هذا السلاح الخطير، والمفترض انه محرم دوليا، ما حدث، يذكر بما حصل عام 1992 عندما تبنت منظمة اخرى من منظمات الامم المتحدة طلبا عراقيا للتحقيق في مصير اثار مدينة اور، بناء على كون المدينة الاثرية مدرجة على قائمة مدن التراث الانساني، التي يكلف اليونسكو بالحفاظ عليها. يومها علقت الولايات المتحدة مساهمتها المالية في ميزانية اليونسكو على سحب لجنة التراث الانساني طلب التحقيق، وتمكنت واشنطن بفعل ذلك التهديد وتجميع ضغوط اخرى من ارغام اللجنة على السحب، وطي الملف نهائيا.
وقد يكون من قبيل الصدفة ان يكمن رابط خاص بين اليونسكو وطلب منظمة الصحة العالمية، فالمنظمة الثقافية الدولية هي التي تتكفل حتى الان بالاشراف على اثار معتقلات اشويتز وبيركينو بحجة ادعاء موت اليهود فيها، وتتحمل كافة نفقات ذلك. فهل كان موت بضعة آلاف من اليهود، جعلت منهم الاكذوبة ملايين مختلفا عن موت ملايين العراقيين نتيجة الاسلحة المحظورة؟
ربما يكون الاختلاف، ان قتل اليهود حصل مرة واحدة فقط، وخلال عشر سنوات حرب، في حين ان تأثر العراقيين المميت باليورانيوم سيستمر مئات الالوف من السنين.
بل ان سخرية المفارقة، ان اعلام امبراطورية الشمال يشبه صدام حسين بهتلر، وليس رب الابادة الاميركي او الاسرائيلي.
وكما لم تكن عبارة كرومر الشهيرة »كل شيء بدأ في سومر« لتشفع لآثار مهد الحضارة الانسانية، فان كون هؤلاء العراقيين احفاد مكتبة اشور بانيبال ودار المأمون لا يشفع لهم، كي يعاملوا كانسان لا يستحق ان يصاب باليورانيوم المستنفد، كما لم يشفع لاحفاد المسيح الا يستحقوا الصلب مرة ثانية، وكل يوم.
ففي اي قاعة سيقف المندوبون الاميركيون، ليخطبوا في مواطني الدول »المارقة« عن حقوق الانسان؟
ووفق اية معايير سيحدد هؤلاء من هو الانسان؟
واذا كان شليسنفر قد تحدث قبل اسبوع عن خطر »الكراهيات« على بلاده، واعتبر ان لكل كراهية سببها، وان كراهية الشرق الاوسط سببها الانحياز المطلق لاسرائيل، فقد كان على حق ولكن فاته ان يذكر ان جزءا كبيرا اخر، سببه التعامل مع العراق.. بل ان الجزئين هما مكونا قضية واحدة.
لقد قال الرئىس الاميركي ان حربه ليس صراعا بين الحضارات بل هي حرب بين الحضارة والبربرية، فهل من حضارة فوق اور التاريخ، وفوق روح الانسان؟ وهل من بربرية ادنى من تجاهلهما بل وسحقهما لاجل بئر نفط؟
ألم يجب وكيل وزارة الدفاع على سؤال حول حساسية المسلمين من وجود القوات الاميركية قرب اماكنهم المقدسة، باننا هناك لحماية ابار النفط؟