في مذكراته يتحدث كولن باول عن موقفه من حرب فيتنام، التي عارضها بشدة على اعتبار انها مناقضة للديمقراطية، عبثية، وغير انسانية. ويستفيض في وصف ثائره لموت جندي اميركي فتى بين يديه.
كذلك يتحدث عن معارضته لحرب الخليج. حيث كان يفضل الاكتفاء بحماية العربية السعودية، الى ان حسم ديك تشيني الامر بقوله: »اعطني نصائح عسكرية، اما السياسة فانا اتكفل بها«.
غير ان رئيس الاركان السابق، ووزير الخارجية الحالي، لا يترك لنا مجالا لتقدير انسانيته ازاء الشعوب المستهدفة، حيث يحدد عقيدته العسكرية بخطوط تتلخص في:
عدم التدخل الا عندما تكون مصالح الولايات المتحدة في خطر، وعندما يكون الهدف السياسي واضحا، مثله مثل خطة الخروج من الازمة، ومثل التفوق العسكري المضمون الذي يجعل الخسائر تقع لدى الطرف الآخر فقط.
عقيدته هذه لا تذكرنا الا بشعار الامبراطورية الرومانية القديمة: الامبراطورية والبرابرة، حيث كانت عدالة مارك اوريليوس النموذجية تطبق على الرومان، دون ان تطال الرعايا من البرابرة، اي الذين يقفون خارج الحدود، هؤلاء الذين يأمر هذا القيصر »العادل« بصب الرصاص في حلوقهم حتى الموت.
فالجندي الفتى الذي ساهم في تشكيل عقيدة الجنرال ليس فلسطينيا ولا عراقيا، والديمقراطية التي يحرص عليها هي ديمقراطية حق المواطن الاميركي في تقرير الحرب وتقرير المشاركة فيها، والعبثية هي عدم ضمان تحقق مصلحة اميركية من النزاع.
لذا كانت فكرة حرب في الخليج تعيد باول الى كابوس فيتنام، فيفضل حماية السعودية، او بتعبير آخر: حماية المصالح الاميركية في السعودية.
ولذا ايضا كان رئيس الاركان هو من اعطى الاوامر بوقف اطلاق النار في حين كان شوارزكوف يفضل الاستمرار في المعركة البرية.
هذه العقلية تضيئها اكثر حادثة حصلت خلال حرب فيتنام، وهي اقتحام وحدة اميركية لقرية ماي لي يوم 16 آذار ،1986 وذبحها لـ 374 مدينا. لكن جندي بسيطا يدعى توم غلين تحرك ضميره ورفع تقريرا للقائد الاميركي: الجنرال ابرامس، يدين فيه آمر العملية الملازم كالي. وعندما حول التقرير الى مكتب كولن باول، للتحقق من صحته، اوقفه المايجر معتبرا ان التحقيق غير ضروري… وعندما تم سؤاله عن ذلك بعد فترة امام الكونغرس اجاب بانه لا يتذكر شيئا من ذلك.
واذا كان فقدان الذاكرة هذا فيما يخص »البرابرة« قد كوفىء بترفيع المايجر الى رئاسة الاركان، ومن ثم الى قيادة الديبلوماسية الاميركية، فذاك لان ذهنية الادارة الحاكمة كلها هي ذهنية الامبراطورية… ذهنية مارك اويليوس، وربما ذهنية متهودة تميز ابناء الله عن ابناء الناس.
بهذه الذهنية، تدير الولايات المتحدة قضية العراق وقضية فلسطين، ووفق مبادىء عقيدة باول المذكورة اعلاه.
بهذه الذهنية فوض باول لشارون وظيفة الحكم على التزام الفلسطينيين بوقف اطلاق النار (وكأن ثمة جيشين يتبادلان اطلاق النار).
وبهذه الذهنية طرحت »العقوبات الذكية«.
واذا كان المشروع قد سقط باصرار روسي، على مصالح روسيا، التي احسن العراق توظيفها، فان ديبلوماسية كولن باول لن توقف سعيها، لتركيع العراق ضمن قواعد المواجهة الاميركية مع آسيا واوروبا. لكن العراق ما يزال يتقن رغم عشر سنوات من الضرب ومحاولات التحطيم، فن الصمود، وتوظيف القدرات في آن.
كما ان حتميات الحد الادنى من المصالح تجعل الدول الاكثر تحالفا، او الاكثر خضوعا، تقول للولايات المتحدة: وقفا. فها نحن ندخل ضمن دائرة الحصار بشكل لا نحتمله.
ها هي روسيا تتذكر انه ما يزال لديها من ارث المجد، من ثمن شهداء ليننفراد، حقا في مجلس الامن يمكنها ان تستعمله وتقبض ثمنه من العراق، بدلا من سفحه على مذبح المصالح الاميركية.
ثمة، دائما، خيارات للعبة السياسية.. والرهان على من يتحمل عض الاصابع الى ان تسعفه اللعبة.