غريب ذلك الشكل الهندسي الذي رسمته صحيفة غربية على صفحتها الاولى فوق خريطة العالم. كل ما ارادته هو ان ترسم سهاما تنطلق من بؤرة واحدة هي الولايات المتحدة الاميركية نحو المناطق التي ستشكل نقاط الاهتمام الرئيسية في عهد باراك اوباما: كوبا، الشرق الاوسط، باكستان، ايران العراق افغانستان، وروسيا. الشكل يرتسم تماما على هيئة يد مفتوحة الراحة، ابهامها كوبا، وبالتالي معسكر غوانتانامو، سبابتها الشرق الاوسط، وفي الوسط الدول الثلاث التي تندرج على خط واحد قبل روسيا.
الابهام تحركت في حركة فني تجميل بارع ووقعت اغلاق غوانتانامو، في لمسة وردية على كريم الاساس الابيض الذي غطى اثار الدخان الاسود على وجه اميركا. والان لا بد للاصابع الاخرى ان تتحرك كل بوظيفتها. حديث كثير عن صفحة جديدة من العلاقات مع ايران وربما عن مفاوضات لن تتاخر كثيرا، وحديث اخر عن انسحاب من العراق، بعد الانتخابات التشريعية. وتهدئة مع روسيا على اساس تهدئة ايقاع قضية نشر الدرع الصاروخية في اوروبا، وقضية جورجيا واوكرانيا. فهل جاء الرئيس الجديد حمامة سلام لهذا العالم؟ وهل ان بنيته القانونية هو المتخرج بدرجة شرف من هارفرد، واصوله الملونة البسيطة تدفعه لان يعطي الحقوق لاصحابها؟
ربما امكن قول ذلك لو كان الرجل قسيسا او الام تيريزا، لكنه رئيس دولة امبراطورية لم يقسم الا على الحفاظ على مصالحها واول هذه المصالح حاليا هو الحفاظ على تربعها على كرسي الامبراطورية العالمية. حفاظ لا يمكن تحقيقه الا بحل مشكلة الاقتصاد، لان هذا العملاق العسكري السياسي لم يكن يوما عملاقا اقتصاديا ( بالمقارنة النسبية ) وها هو الان يقف على حافة الهاوية. في حين يجعل رئيسه الجديد شعاره الرئيس: التوفيق بين البراغماتية والحلم.
وكم ذكرتنا الازمة الاخيرة بمقولة لم يفتا المفكر الفرنسي روجيه غارودي يكررها منذ ثلاثة عقود مفادها، ان اميركا لن تهزم عسكريا ولن تنهار سياسيا، لكنها ستنهار اقتصاديا.
من هنا فان عزف الاصابع الاميركية التي رسمتها الخريطة المذكورة لن يكون على ايقاع واحد: فواشنطن لم تعد قادرة على تحمل كلفة حربين في ان واحد، خاصة اذا كان بامكانها ان تحقق بالديبلوماسية ما تحققه بالة الحرب.
كذلك فان الثدي الثر القادر على ارضاع الجائع الاميركي هو حقول النفط الممتدة في الشرق الاوسط من الخليج الى ايران. حقول نجحت واشنطن في وضع اليد عليها بالكامل في المنطقة العربية: بدون حرب في الخليج وبحرب في العراق، وانتهى الامر الى احتلال الجميع. كما انتهى الى ملحق للاحتلال قد يكون اهم من الاحتلال نفسه وهو وضع الحكومات القائمة في حالة تعارض مع المقاومة الرافضة للاميركي، بحيث تنوب الاولى عن هذا الاخير في عملية خنق الثانية.
من جهة ثالثة، لا بد لكل حرب مهما كان المعتدي فيها مطلق القوة من حجة ولو كاذبة، غير ان كذب حجج احتلال العراق وصل حد الفضيحة، وحد الشمس التي لن ينفع معها الغربال. واذا كان الديمقراطيون قد ساهموا في كشف هذه الاكذوبة ليوظفوا ذلك في معركتهم الانتخابية، فانهم الان امام الاستحقاق الذي يفرضه ذلك التوظيف.
اما في السياق الرابع فان ترتيب الوضع العراقي قد شرعن رسميا بتوقيع الاتفاقية الامنية، هذا في حين اكتملت خريطة القواعد العسكرية الاميركية في الخليج العربي وفي العراق واصبحت جاهزة لاستقبال الجنود الاميركيين وترك شان مدن العراق ومحافظاته لحكومة تتدبر المصالح الاميركية افضل من الاميركيين، سواء برضاها، او بخوفها على نفسها، او بفرض الاتفاقية المذكورة.
وباختصار اكبر يمكن القول ان الحرب على العراق قد نتهت الى تحقيق هدفيها الاسايين: السيطرة على النفط وتدمير القوة العسكرية التي يمكن ان تهدد اسرائيل.
من هنا تصبح الاولوية الان هي التوجه الى افغانستان لتامين البوابة الكبيرة التي تؤدي الى روسيا واسيا وايران وتركيا وحتى الشرق الاوسط. لذا قرر الرئيس الجديد تكثيف حملات الطائرات بدون طيار على مناطق الحدود الباكستانية، ونقل عدد كبير من القوات العسكرية من العراق الى افغانستان، وربما غدا كلها او معظمها. ولذا كثر الحديث في الاعلام عن تجارة الهيرويين لانها ستكون الحجة الجديدة التي تحل مكافحة المخدرات محل مكافحة الارهاب، ومن هنا لم يعد غوانتانامو مهما. ولذا اخيرا لا بد من تفاهم ما مع طهران، لان استقرار الوضع في العراق لا يمكن ان يتحقق بدون تفاهم ايراني اميركي تركي وضمنا سوري، كما ان التحرك في افغانستان لا يمكن ان ينجح الا بمساعدة او على الاقل بسكوت ايراني.
خريطة ترتسم كلها بدون ان يكون العرب فاعلين عليها، وبحيث يصبح اسم الشرق الاوسط وكانه يعني فقط، في معادلة القوة والمصالح، تركيا وايران اللتين عرفتا ان توظفا كل شيء حتى دعمهما لمقاوماتنا في لبنان وفلسطين. وليس لاي عربي ان يجعجع متهما في هذا السياق، بل ان يسال نفسه: لماذا لم نضطلع نحن، باموالنا وقوانا بواجب دعم مقاوماتنا والاتحام بها، بدل طعنها في الظهر، كي تكون كما هو منطق الامور القومية. ورقتنا السياسية التي تفرزها ساحة المعركة الى الطاولة؟