“وراء هذه الصحراء نلتقي شعوبا خرساء، لا تستطيع التفاهم الا بالاشارات، لبعضها لسان، وبعضها محروم منه، والبعض الآخر لا يملك الا ثقبا تحت الأنف يجعله يأكل الحب الذي يصادفه في الارض، حبة، حبة«.
هكذا وصف بومبونيوس الروماني ما كان يطلق عليه في ايامه جغرافيا مصطلح (Terra incegnyta) وديموغرافيا مصطلح البرابرة.
وحين اطلق الباحث جان كلود روفين كتابه الهام »البرابرة الجدد« ساد المصطلح في اللغة السياسية، للتعبير عن علاقة الشمال بالجنوب، فكما كان مارك اويليوس، رمز العدالة في روما القديمة يأمر بصب الرصاص في حلوق الاسرى من البرابرة، بحجة الحفاظ على امن روما، وقيمها، هكذا يتعامل اباطرة الشمال اليوم سياسيا واقتصاديا وثقافيا مع برابرة الجنوب وبذات الحجة.
وذاك ما يعبر عنه الباحث المذكور في مقدمة كتابه بالقول: »نحن ندخل عصر العولمة المحدودة: الحق، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، المثل المشروعة للجميع، ولكن داخل حدود امبراطورية الشمال«.
صحيفة ساندي مورننغ حملت في عددها الاخير، استياء بريطانيا من صدور صورة للملكة وهي تصطاد ديكا وتقطع رقبته..
المشكلة ان الملكة من الشمال الجديد ووريثة بقايا »امبراطورية« جديدة.. والمشكلة الاخرى، ربما، ان الديك الضحية يصيح باللغة الانجليزية..
لكن للديكة صياحا موحدا كما الأرواح الانسانية.. اللهم الا في الايمان اليهودي الذي يميز روح اليهودي ودمه عن ارواح ودماء الغوييم.
فهل يعطي لذلك لموتنا مشروعية مزدوجة، طالما اننا لسنا من الشمال، ولسنا من اليهود؟!
ليصبح قطع اليزابيث لرقبة ديك »شمالي« اكثر ازعاجا للضمير البريطاني، من قطع بلفور لرقبة شعب كامل، وقطع موعوديه (بعد الوعد الالهي) لرقاب اطفال هذا الشعب ووجوده؟
ولكن:
هل تصلح هذه الاسئلة الاستنكارية وما يمكن ان يتوارد من مئات ساذجة سواها ردا على هذا الواقع المر؟
وهل يجوز الرد على تحدي الاذلال والموت بلطم الخدود، واستصراخ الضمائر؟
انه اسلوب العجزة، وليس في العالم السياسي من يحترم العجزة، والضعفاء.
وطالما علمنا التاريخ الحديث والبعيد، اننا عندما كنا اقوياء، كنا نحن »الشمال السياسي« الذي جعل اندره مورياك يقول: »لو لم ينتصر شارل مارتيل في بواتييه لكانت هذه القارة اليوم، قارة مسلمة«.
وكنا قادرين بعد مئات السنين من الاحتلال الصليبي، على ان نحرر ونرسي قيما لا قدرة لهؤلاء العرب على نفيها، كما كنا، بارتفاع احرارنا الى فضاء المشانق، وارتفاع الكواكبي الى المواجهة فالنفي فالسم، ان ننهي استعمارا عثمانيا نشر الجثث على الطرقات والجوع والرعب في كل بيت.
وانتهى الـ »كنا«.. لنسقط في هزائم الانظمة المهزومة بسند قيامها ووجودها. ولكن.. لتنتفض نار الناس، الناس، مرة هنا، ومرة هناك، تخترق ثقل الغطاء، وتثبت ان الموت قدر الافراد فقط.
فلم يكن انطلاق المقاومة، ديكا يمكن لاحد ان يقطع رقبته، وجاء صياحه مرات ليؤكد ذلك..
صياح اجبر العالم، خاصة مع الانتفاضة الاولى على اسقاط مقولة ارض بدون شعب، واجبره مع تحرير الجنوب اللبناني على اسقاط اسطورة القوة التي لا تقهر، وحتمية احتلال »الارض الموعودة«.. وها هو يجبره مع الانتفاضة الحالية، على اسقاط مقولة فاعلية مخدر السلام، واكذوبة »التنازلات«، وسم اليأس، ليس فقط داخل فلسطين، وانما على المدى الشعبي العربي كله.