في اواخر الستينات حاول شارل ديغول ان يضع فكرة استقلالية السياسة الفرنسية، موضع التنفيذ، فتألبت القوى اليهودية ضده، ودخلت بكثافة وعنف قميص اليسار، الذي لم يكتف بيهوده الفرنسيين، بل حمل الى قيادته كوهن بنديت القادم من المانيا.
ولم يحتج الامر لاكثر من سنة، سنة من تصريحات ديغول اثر حرب حزيران ،1967 الى المظاهرات الطلابية، واسقاطه او تنحيه عام 1968.
في الثمانينات تكرر مشهد »الجريمة والعقاب«، مع الرئيس الديغولي الثالث فاليري جيسكار ديستان اذ اصر على سياسة مستقلة متوازنة، فتصاعد ما اسمي بـ »الحملة المضادة لجيسكار« وكان اللوبي اليهودي قد اصبح افضل تشكلا واوضح نفوذا، برعاية مباشرة من اسرائيل عبر موفد خاص ارسلته لهذا الغرض، وكوفىء فيما بعد على نجاحه، بتعيينه سفيرا لدى المجموعة الاوروبية..
سقط ديستان الديغولي، وجاء اليسار الاشتراكي، الذي يضم بين صفوف قياداته ابرز مؤيدي اسرائيل، بدءا من الرئيس، الذي كان البله العربي يكرر ما يسوقه الاعلام الغربي التمويهي من انه »صديق العرب« في الوقت الذي يعيش ابنه في احد الكيوبتزات، ويسيطر اليهود المتصهينون على معظم المواقع الرئيسية من مستشارين ووزراء. بدءا بجاك اتالي، الذي احتل مكتب شارل ديغول نفسه، وخصصت للرئيس الغرفة الملاصقة، والذي ظل مستشارا لرابين وميتران في وقت واحد، ومرورا بلوران فابيوس رئيس الوزرآء، وبيير جوكس وزير الداخلية وسواهما..
ولكن حتى ميتران هذا، انتهى الى الشكوى من ضغط اللوبي اليهودي، خاصة فيما يتعلق بالدفع الى المشاركة في حرب الخليج، وعندها كتب موريس صفران، مقالا افتتاحيا في الاكسبرس موجها للرئيس، يذكره فيه صراحة بان اليهود كانوا وراء اسقاط الرئيسين الديغوليين، ويهدده بالمصير نفسه اذا استمر بالحديث عن »اللوبي« واذا لم يحسم قرار الحرب.
وفي آخر فطور له في الاليزيه، عاد ميتران يشكو من اللوبي، لصديقه جان ايمرسون، الذي اثار ضجة كبرى عندما نشر ذلك في كتاب.
اليوم،
هل يواجه جاك شيراك التحدي ذاته؟
للجواب، لا بد من مقدمة تحدد بضع نقاط:
اولا، انه قد تكون ثمة مبالغة فيما يعمل اليهود على تسويقه، بخصوص حجم قوة ضغطهم »اللوبي«، وذلك لأن التسويق بحد ذاته جزء من الضغط، ولكن العودة المتأنية للوثائق والوقائع، تؤكد انه، بدون المبالغة هناك قوة ضغط حقيقية، لا تتمثل في قوة اليهود انفسهم، بقدر ما تتمثل في قدرتهم على تحريك الآخرين.
ثانيا ان الرؤساء والسياسيين الفرنسيين، الذين يدافعون عن الاستقلالية، لا ينطلقون الا من مصلحة عليا استراتيجية لبلادهم في حوض المتوسط، وفي العالم العربي، وحتى في مصلحة ذاتية داخلية في التخلص من التبعية الاطلسية، الامريكية.
وهنا يلتقي الديغوليون مع العديد من القادة الاشتراكيين الجمهوريين من مثل جان بيير شفينمان، وكلود شيسون وغيرهما. حيث تجمعهم هنا الفكرة التي يكونونها عن الجمهورية، ورؤيتهم لمصالح بلادهم.
ومن هذا الاساس ينطلق شيراك فرنسيا، اضافة الى انه ملتزم هذه المرة، بمنطلق آخر: الاوروبي. ففرنسا واوروبا، لم تجد لها مكانا بعد حرب الخليج، لا على ارض المكاسب الخليجية، ولا على طاولة المفاوضات العربية الاسرائيلية، مما يعني الا يكون لها مكان فيما بعد الطاولة.
وحيث ان لقاعة المفاوضات بابين، وحيث يدرك شيراك ان العبور من الباب الاسرائيلي، لن يكون الا للأميركيين، فانه يحاول العبور من الباب العربي..
هكذا تحبك مصالح الدول، والشعوب، وليست العلاقات الدولية الا لعبة حبك المصالح.
لذلك سيؤيد شيراك انصار الاستقلالية، ومن يعتقدون بضرورة التوجه نحو العالم العربي لاعتبارات ثقافية حضارية، واقتصادية، وسياسية.
وسيحارب شيراك، انصار التبعية الامريكية، ودعاة الانحياز المطلق لاسرائيل وكلاهما قوة لا يستهان بها.
لكن القوة الاخرى قائمة، والمصلحة، قبل الشهامة تدعو الدول العربية الى تلمسها، ودعمها وتقويتها، وذلك ما هو ممكن باكثر من وسيلة.