غام المقال الذي يحمل عنوان: “شجاعة القسمة” وخرج إليّ شبح رجل، ناقم، غاضب، و… كسير.. وضع بين يدي كتابا اسمه »طبائع الاستبداد” فتحه على عنوان: “المفاهيم المقلوبة” وعاد يغيب في خدر السم الذي تسلل الى شرايينه قبل قرن، عقابا على ثورته الشجاعة، الجذرية، الاصيلة على زمن الانحطاط..
رحم الله عبدالرحمن الكواكبي.. رحمه وحده، فزمن الانحطاط ما يزال حيا، والمفاهيم المقلوبة ما تزال تنمو وتزدهر.. من سلام الشجعان، الى “شجاعة القسمة”.
انتبهت الى ان الكواكبي وضع اصبعي على اول السطر، واذا هو انقلاب مفهوم الشجاعة، بحيث تصبح هي تهورا، ويمنح اسمها الى اشياء كثيرة تتدرج من الرضوخ الى الخيانة.
اعود الى المقال: والتوقيع يوئيل ماركوس، الصحيفة ها آرتز.. والقسمة هي قسمة القدس.
والحسبة دقيقة، ومضمونة بميزان تاجر يهودي.
ماذا ستعطي اسرائيل، او باراك وماذا ستربح؟
ماذا سيخسر الفلسطينيون وماذا سيربحون؟
باراك لن »يعطي« شيئا، لانه يساوم على ارض احتلها اباؤه بالقوة عامي 1948 و1967.. هذا بمنطق الحق.. ولكن حتى بمنطق مساح الاراضي، و»الشرعية الدولية« التي لم تكن يوما معادلا مطابقا للحق، فان كل ما يطلبه عرفات هو ثلث القدس، وما »سيقبل« به باراك هو ثلثاها الآخران.
اضافة الى ذلك، فان المبادرة المصرية تعطيه السيادة على الحي اليهودي وحائط المبكى، مع ما في ذلك من كسب معنوي وسياسي.
هذا على الارض، اما المكاسب السياسية فاهمها، كما يرى عالم الاجتماع الاسرائيلي الشهير باروخ كيمرلنغ، هو: الامن. لان اقتسام القدس مع الفلسطينيين هو الوسيلة الوحيدة لضمان امن اسرائيل على المدى البعيد، واذا ما اصرت على اتفاق يستثني اقتسام القدس، فانها لن تحصد الا عنفا ومقاومة لا ينتهيان، في »عاصمتها«.
وقد بات واضحا من استطلاعات الرأي ان غالبية الاسرائيليين يشاطرون كيمرلنغ رأيه هذا.
المكسب الثاني، هو الاعتراف الدولي، فالمجموعة الدولية لم تعترف اي دولة فيها بالقدس »الموحدة« عاصمة لاسرائيل، ستعترف جميعها، غداة اتفاق الاقتسام بالحصة الغربية ـ حصة الثلثين ـ عاصمة وملكا للدولة العبرية.
المكسب الثالث، فهو التخلص من عبء سبعة وعشرين الف فلسطيني ما زالوا يشكلون اكثرية ديمغرافية ساحقة في القدس الشرقية »مقابل الفي يهودي«، رغم جميع عمليات التضييق والتهجير، ومصادرة الهويات.
اما المكسب الرابع، وربما الاهم، فهو ان اسرائيل، ستحصل نتيجة ذلك على طرف فلسطيني مؤيد وداعم، ومستعد للمضي اكثر واكثر على الطريق التي يعبدها هذا الاتفاق.
طريق ما تزال عليها محطات خطيرة، بل اخطر من موضوع القدس، ومن جميع المواضيع التي طرحت حتى الآن، محطات اهمها قضية اللاجئين.
»اذا اعترفنا بحق العودة، فمعنى ذلك ان اسرائيل تفقد طبيعتها كدولة صهيونية«.
هذا ما قاله قبل اسبوعين، اكثر المسؤولين الاسرائيليين حظوة بغرام العرب واعجابهم: العمالي، اليساري، رسول السلام، تلميذ بيريز، واحد اثنين، اعدهما هذا المعلم لاوسلو وما تلاها..
التاجر اليهودي، يتقن الحسبة جيدا، وفي الحسبة احتمالان:
اما ان يصبح »حل القدس« على كل ما فيه من مكاسب لاسرائيل بديلا لحلول اخرى.. واساسا لوهم ان باراك وضع في احدى الكفتين »شجاعة اقتسام القدس«، وجاء دور الطرف الاخر، ليضع في الكفة المقابلة »شجاعة التنازل عن حق العودة«.
واما ان توضع الامور في اطارها، بشجاعة حقيقية، ويقدم الطرح نفسه ولكن مقلوبا من الجهة الاخرى، وقد ينفع هنا التذرع بسابقة الشرعية الدولية التي كرست »حق العودة«.